كان هذا في غزوة بدر، وأنتم تعلمون أن غزوة بدر هذه غيّرت وجه التاريخ، بالضبط كأحداث سبتمبر، إذ أصبح لأوروبا وأمريكا تاريخاً في هذا الوقت كالتاريخ الهجري لنا، فنحن لنا أيام وهي الأيام الهجرية والشهور العربية، فكذلك هؤلاء صار لهم تاريخ مشرّف جداً وهو (١١) سبتمبر، فيقال: أحداث ما قبل (١١) سبتمبر، وأحداث ما بعد (١١) سبتمبر، وهذا شيء طيب أن يكون لهم تاريخ، ونحن لا نكره أن يكون لهم تاريخ، فأعظم حدث بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام في الإسلام عامة هو غزوة بدر، وأنتم تعلمون أن الصحابة رضي الله عنهم إنما حُملوا حملاً على الهجرة من مكة، فكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة، ثم الهجرة الثانية إلى الحبشة، ثم ذهب فلان وفلان من صناديد الشرك والكفر في مكة لمقابلة النجاشي والتحريش بينه وبين هؤلاء المهاجرين، وتم رجوع بعضهم إلى مكة، وبعضهم صبر هناك حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقدم من الحبشة إلى المدينة، والهجرة تمت بعد (١٣) سنة من مكة إلى المدينة، وكانت أعظم حدث عرفه التاريخ، وكانت هجرته عليه الصلاة والسلام نصراً وأي نصر، ورفعاً للراية، وإسماعاً للعالم بالدعوة الجديدة وبنبي آخر الزمان، وأنتم تعلمون أن الذين هاجروا إلى الحبشة أو إلى المدينة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم تركوا أموالهم وديارهم وأهليهم، ومنهم من ترك أولاده، كل ذلك في سبيل الله عز وجل.
ومنهم من مُنع من الهجرة إلا أن يخرج من مكة ليس معه شيء إلا زاد الطريق، فلما كان ثمن ذلك الجنة باعوا كل شيء في سبيل الجنة؛ ولذلك بشّرهم النبي عليه الصلاة والسلام بربح البيع.
فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام في العام الثاني من الهجرة بأن عير قريش قادمة من الشام إلى مكة وهي محملة بالخيرات والأموال وغير ذلك أراد أن يخرج إليهم ليعوّض ما قد أخذوه من أصحابه في مكة، فما خرج لقتال ولا لجهاد ولا لثأر، وإنما خرج ليأخذ مال القافلة ومال العير، وهو شيء مما قد تركوه لهم في مكة، وهذا حق.
كان أبو سفيان في ذلك الوقت مشركاً، وكان زعيماً لهذه القافلة، وقد علم بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، فحاول بشتى الطرق الخلاص بالقافلة مع العبيد والإماء من طريق جانبي فرعي إلى مكة، وأخبر أهل مكة وصناديد الشرك والكفر فيها بأن محمداً يعترض القافلة، فقام صناديد الكفر في مكة بتجهيز جيش بلغ الألف وزيادة، وقاموا قومة رجل واحد قادمين إلى المدينة لملاقاة أبي سفيان في معسكر واحد لحرب النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا (٣١٤) شخصاً، واحتدم القتال عند بئر بدر على تفصيلات ليس هذا وقتها.
وإنما وقع القتال بين الطائفتين، والنبي عليه الصلاة والسلام قام يدعو ربه ويستغيثه بالليل، وكان ذلك في ليلة الجمعة، وكان القتال في صبيحة الجمعة، حتى أشفق عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وسقط عنه رداؤه من على كتفه الشريف إلى الأرض، فأخذه أبو بكر ووضعه على كتف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: رفقاً بك يا رسول الله! فوالله لينجزن الله لك ما وعدك، فأنزل الله تبارك وتعالى ملائكته على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقاتلوا دونه قتالاً عنيفاً حتى كان عدد الأسرى من المشركين سبعين نفساً، والقتلى مثلهم، واستشهد من جيش المسلمين أربعة عشر شهيداً فقط، ورجع الثلاثمائة، وقد أُخذ القتلى من قريش وأُلقوا في قليب بدر، وهي حفرة عظيمة جداً، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم على رءوسهم وهو يقول:(يا أهل بدر! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإنا وجدنا ما وعد ربنا حقاً؟) يا فلان ابن فلان! هل وجدت ما وعد ربك حقاً؟ ويا فلان ابن فلان هل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟ فقال عمر رضي الله عنه:(يا رسول الله! أتحدث قوماً قد ماتوا؟ وإنهم لا يسمعون) وهذا أمر يدل على استقرار عدم سماع الأموات لدى الصحابة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن هؤلاء لهم خاصة فقال:(والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ففي هذا إثبات أن أهل القليب كانوا يسمعون النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هذا سماع خاص، والأصل أن الميت لا يسمع شيئاً، إلا مواضع معيّنة استثناها الشرع، منها أنه يسمع قرع نعال من شيعوه.
وهذا نوع من أنواع الإسماع.
وهذا مخصوص بهذا الموطن دون غيره من بقية المواطن، فما أثبت الشرع كتاباً وسنة أن الميت يسمع في موطن معيّن، فهو لا يتجاوز هذا الموطن سماعاً، وإلا فالأصل أنه لا يسمع.