[التفريق بين من يبتغي الحق ويخطئه وبين من يبتغي الباطل ويصيبه]
وننتقل إلى القاعدة الخامسة التي ينبغي أيضاً أن يلتزمها العبد في الحكم على الآخرين، فهي: معاملة من أخطأ في طلب الحق، كيف نتعامل مع من طلب الحق فأخطأ فيه؟ إن واقعنا العملي يوضح لنا أن الذي يبتغي الحق ويخطئ فيه كالذي يبتغي الشر ويصيبه، وهذا هو منهجنا وحياتنا العملية، لكن السلف كانوا على غير ذلك تماماً، فإن من تحرى الحق وأخطأ فيه ليس كمن تحرى الباطل فأصابه، يقول الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:٢٨٦]، فالله عز وجل قد علّم المؤمنين من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوه بهذا الدعاء، علّمهم وأدّبهم كيف يدعون ربهم، وكأنه قال: قولوا: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، أي: لا تأخذنا بذنبنا إذا كان هذا الذنب مبعثه الخطأ والنسيان، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لأمتي عمّا حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل).
وثبت عن ابن ماجه وابن حبان وغيرهما من حديث أم الدرداء وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وفي رواية أم الدرداء: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان والاستكراه)، وهذا معنى قوله عز وجل: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:٢٨٦] إلى آخر الآيات، وفي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عباس أن الله عز وجل قال عند كل دعاء من هذا: قد فعلت، أو قال: نعم.
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، قال: قد فعلت، ((رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا))، قال: قد فعلت، ((رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ))، قال: قد فعلت، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:٢٨٦]، قال: قد فعلت، وفي رواية عند مسلم قال: نعم.
فهذا يدل على أن الله عز وجل يغفر المعاصي إن صدرت عن خطأ أو عن نسيان وجهل.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في بعض ذلك، فالله يغفر له ذلك تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله عز وجل لنبيه وللمؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:٢٨٦].
ثم يقول: فإن اجتهد الإنسان في طلب الحق من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في ذلك؛ فهو مغفور له بنص الآية السابقة، كما أنه إذا استفرغ العالم وسعه في طلبه للحق من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض مسائل الاعتقاد فإنه لا يبدّع ولا يهجر من أجل خطئه، وإن كان يقال: إن قوله قول مبتدع، ومن هنا تعلم أنه لا تلازم بين البدعة وبين فاعلها؛ لأنه قد يفعل المرء فعلاً هو من أفعال أهل البدع، ولكنه لا يدري ولا يعلم أن هذا الفعل أو هذا القول هو من أفعال المبتدعة أو أقوالهم.
فالذي يقول مقولة أهل البدع، أو يفعل فعل أهل البدع لا يبدّع ولا يُهجر إلا بتحقق الشروط وانتفاء الموانع من قيام الحجة عليه، وتبليغ العلم إليه، وانتفاء الجهالة، وانتفاء الإكراه وغير ذلك مما يمكن أن يتصور أنه ما وقع فيما وقع فيه إلا نتيجة الجهل مثلاً أو نتيجة الإكراه وغير ذلك، أو النسيان أو الخطأ أو التأويل، فربما وقع هذا من باب التأويل.
والتأويل عند العلماء له أيضاً شروط وأحكام لعلنا نتعرض لها في أثناء شرحنا للصحيح.
قال: فكما أن القول الكفر لا يلزم منه أن يكون صاحبه كافراً، فكذلك لا يلزم أن يكون قائل البدعة مبتدعاً.
يعني: ربما يتلفظ المرء بقولة هي قولة كفر، لكن هذا لا يلزم منه أن يكون القائل كافراً، إلا إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع، ولو أننا كلما أخطأ الإمام في اجتهاده خطأ مغفوراً له فيه، لاستفراغ الوسع في طلبه للحق ومن مصادره الصحيحة قمنا عليه وبدّعناه وهجرناه لما سلم لنا كثير من العلماء.
ولو أن كل إنسان أخطأ رُد كله، لكان أول المردودين أنت.
وقال الشاعر: من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط وأما من أخذ دينه من غير جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذ دينه من طريقة أهل الكلام، من طريقة المتصوفة، أو من المعتزلة أو الأشاعرة، أو الماتريدية، وغير ذلك من المذاهب والفرق الضالة، فلا شك أنه يأخذ دينه من غير جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهذا مبتدع في مصدره وفي قوله ومعتقده.
يقول الإمام