[رائحة الجنة]
والجنة لها رائحة طيبة كأطيب ما تكون الرائحة، ويوجد أثر هذه الرائحة من مسيرة خمسمائة عام، وقيل: من مسيرة مائة عام، وقيل: أقل من ذلك، وقيل: أكثر من ذلك، والروايات كلها صحيحة، فكأن ريح الجنة يشمها من كان من أهلها على حسب عمله، وعلى حسب درجته، فمنهم من يشم رائحة الجنة على مسيرة خمسمائة عام، ومنهم من يشم رائحتها على مسيرة مائة عام، وأربعين عاماً، وغير ذلك والروايات كلها صحيحة، فإذا صحت الروايات وجب العمل بها جميعاً، وهو خير من رد بعضها، أو الحكم عليها بالشذوذ أو النكارة وغير ذلك.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد ذكر في رواية عن المتبرجات، وعن السلطان الظالم: (أنهما لا يشمان رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا، -وفي رواية-: من مسيرة خمسمائة عام).
واحد يقول: نحن في هذا الوقت لا نشم رائحة الجنة، وما يدريك أن غيرك قد شمها منذ خمسمائة عام، وأن الله قد حرمك هذه الرائحة.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من قتل معاهداً بغير حق لم يرح رائحة الجنة)، والمعاهد هو الذي عقد عهداً بينه وبين المسلمين، يعني: الذي بينه وبين المسلمين عهد أو هدنة، أو ميثاق أو شيء من هذا، ولو أنزلنا هذا الكلام على الواقع قلنا: الدولة في مجموعها تأذن لغير المسلمين أن يدخلوا في هذه البلاد، فكوني أنا ضابط مثلاً في المطار ومخول من قبل السلطان أن أصك جواز القادم من بلاد الكفر لمدة خمسة عشر يوماً إقامة في البلد عندي، فهذا إذن وعهد، وميثاق، فلا يجوز لي أن أتعرض له بالقتل أو الضرب أو التشريد أو غير ذلك بعد أن أذنت له بالدخول، فلو تعرضت له لكان عقابي هذا الحديث (من قتل معاهداً بغير حق لم يرح رائحة الجنة، وإنه ليوجد ريحها من مسيرة أربعين عاماً).
وهذا من الزجر والوعيد الشديد، ومن المعلوم والمقطوع به شرعاً أن الأموال، والأعراض شيء واحد، فمن استحل الأموال استحل الأعراض، ومن استحل الأعراض استحل الأموال.
وقد وجه إلي وأنا في أمريكا سؤال يقول السائل: أنا أعمل في المحل الفلاني، وأسرق نسبة عظيمة جداً من المال استحلالاً.
فقلت له: لو أن امرأة صاحب المحل أتت المحل هل تستحل أنت عرضها -لأن العلماء لم يفرقوا بين العرض وبين المال- والذي يستحل هذا يستحل ذلك؟ فقال: نعم وما المانع في ذلك، قلت: الذي يستحل المال يجب عليه أن يستحل العرض؛ لأنهما متفقان، ومبرمان في عقد واحد.
فأموال الكفار، ودماء وأعراض الكفار لا تكون حلالاً إلا إذا رفعت راية الجهاد بين معسكر الإيمان والكفر، هذا في النزال العام، وفي النزال الخاص لا يجوز التعرض بالأذى في المال، والنفس للكفار المعاهدين إلا إذا بغوا ونقضوا العهد، فحينئذ إما أن ينذرهم الإمام -أي: السلطان- أن يخرجوا من البلد، أو يعتذروا عما بدر منهم، ويردوا المظالم إلى أهلها من المسلمين، وإما أن يقع النزال الخاص في داخل البلد، وأحكام أهل الذمة كثيرة جداً لكني أردت بالمناسبة أقول: إن للجنة ريحاً وهذه الريح الطيبة، الزكية، يشمها المؤمن، لكن هناك حوائل وموانع من شم هذه الريح، منها: التعرض للمعاهد بالأذى في نفسه، وماله، وعرضه كما في الحديث: (من قتل معاهداً بغير حق)، وهذا قيد واستثناء فمن قتله بحق فإنه لا تنطبق عليه العقوبة، وأما بغير حق فتنطبق عليه العقوبة، وهذا كلام الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من ادعى إلى غير أبيه لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام).
ومعنى: (من ادعى إلى غير أبيه) يعني: نسب نفسه إلى غير أبيه، قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:٥]، وهذه الآية نزلت ناسخة للتبني الذي كان معروفاً في الجاهلية، والنبي عليه الصلاة والسلام قد تبنى زيد بن حارثة، أما ولده أسامة، فليس داخلاً في التبني، وإنما كان مولى للنبي عليه الصلاة والسلام، وأما زيد فكان ابن محمد عليه الصلاة والسلام بالتبني، حتى كان الناس يقولون: زيد بن محمد، حتى نزل قول الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:٥]، يعني: انسبوهم لآبائهم ما داموا معروفين، وإن لم يكونوا معروفين: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [الأحزاب:٥]، فيكون هذا أخانا في الله، وليس لقيطاً، هو مسلم موحد، فيكون أخانا في الله، وتنتهي القضية هكذا.