[الأحكام المستنبطة من قصة رجم ماعز بن مالك الأسلمي]
احتج بهذا الحديث أبو حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وموافقوهما على أن الإقرار بالزنا لا يثبت ويرجم به المقر حتى يقر أربع مرات.
وقال مالك والشافعي وآخرون: يثبت الإقرار به بمرة واحدة.
أخذوا ذلك من حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (لما أتاه رجل وقال: يا رسول الله! إن ابني هذا كان أجيراً أو عسيفاً -أجيراً- عند فلان فزنا بامرأته، فأخبروني أن على ولدي الرجم فافتديت منه بمائة ناقة أو بمائة شاة، فاحكم بيننا يا رسول الله! قال: أما الشاة فهي رد عليك) ترجع لك ثانية.
(وأما ولدك فعليه جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس! -أي: اذهب يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) لم يقل: فإن اعترفت أربعاً أو فإن أقرت أربعاً ارجمها، وإنما قال له: (فإن اعترفت - أي: مرة واحدة - فارجمها) فهذا الحديث يؤخذ منه أن الإقرار مرة واحدة يكفي لإقامة الحد.
وقوله (فإن اعترفت فارجمها) يدل على أن المرأة كانت محصنة.
وحديث الغامدية ليس فيه إقرارها أربع مرات.
واشتراط ابن أبي ليلى وغيره من العلماء إقراره أربع مرات في أربع مجالس متعددة مذهب بعيد.
أما قوله: (أبك جنون) قاله ليتحقق حاله، فإن الغالب أن الإنسان لا يصر على الإقرار بما يقتضي قتله.
والعجيب أن النبي عليه الصلاة والسلام يتمنى لو أنه يرجع عن إقراره، يعني: مرة ومرتين وثلاثة وأربعة؛ يدرأ عنه الشبهات، ثم يكون بعد ذلك القضاء الشرعي.
ومن هنا نعلم أنه لابد من الحفاظ على الدماء بقدر الإمكان، والحفاظ على الأعراض بقدر الإمكان، واحترام آدمية الآدمي إلى أقصى حد.
فالإسلام احترم العوالم الأخر: عالم الحيوانات والطير والسباع حتى الحيتان في البحر، فما من مخلوق إلا وقد احترمه الإسلام وجعل له حقوقاً وعليه واجبات، لا كما يفعله القضاء اليوم.
وشتان بين نظام العدل الوضعي وبين نظام العدل الذي شرعه الله عز وجل وطبقه النبي عليه الصلاة والسلام عملاً، وطبقه الصحابة وخلفاؤه الراشدون، وشتان بين أخلاق الأمة في سالف أمرها وفي حاضر أمرها.
والحسن البصري يقول: أعمالكم عمالكم.
أي: على قدر أعمالكم يسلط عليكم العمال والأمراء والسلاطين والحكام، فنحن منهم وهم منا، فعلى قدر أعمالنا سلط الله تعالى علينا هؤلاء، وتسليط هؤلاء علينا أرحم بنا بكثير جداً من تسليط وزارة الأوقاف علينا.
إي والله! نستطيع أن نتعامل مع ضباط الأمن، ولا نستطيع أن نتعامل مع إمام في مسجد فضلاً عن شخصية مرموقة في وزارة الأوقاف، وما ذلك إلا لأخلاقهم المنافية للالتزام، فترى كل واحد منهم يشرب سيجارة وبجانبه امرأة متبرجة، ويشير إليها بالعشق والهيام، ويشير إلى غيرها باللمز والغمز والهمز، وتجد الواحد منهم قد ظهرت فيه السمنة، ومعلوم أن الإنسان كلما امتلأت بطنه فرغ عقله؛ ولذلك يقول الإمام الشافعي: لا أعلم عيباً على محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة إلا أنه سمين.
فقد كان السلف يعيبون السمنة, وأنتم تعرفون أن الإمام الشافعي كان تلميذ محمد بن الحسن، وقد تلقى الحديث على يديه، وكان عالماً جهبذاً ينصر مذهب الحنفية قبل أن يتحول عنه، ويأخذ بالدليل، فقد كان يقلد أبا حنيفة من قبل.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (اذهبوا به فارجموه) ففيه جواز استنابة الإمام من يقيم الحد.
قال العلماء: لا يستوفي الحد إلا الإمام أو من فوض ذلك إليه، فلا يقيم الحد إلا المسئول، أما آحاد الناس فليس لهم ذلك.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.