[رواية البخاري لسياق رسالة رسول الله إلى هرقل]
ساق الإمام البخاري هذا الحديث ولكن فيه زيادة.
قال: (قال ابن الناطور) وابن الناطور -لقب معناه: حارس البستان، ولعلها كلمة فارسية- (وكان صاحب إيليا).
أي: أن ابن الناطور كان أميراً على بيت المقدس، وكان صديقاً حميماً لـ هرقل، فـ هرقل كان زعيم الروم على حمص، والحارث بن أبي شمر كان على حوران، وابن الناطور كان على القدس، وكان ابن الناطور أسقفاً على نصارى الشام -أي: زعيماً وسيداً- يحدث: أن هرقل حين قدم إيليا أصبح يوماً خبيث النفس -أي: مهموماً مغموماً.
وإيليا: كلمة عبرية معناها: بيت الله، فذهب هرقل من حمص إلى بيت المقدس ليزور ابن الناطور، فنام ثم قام من النوم خبيث النفس.
قال: (أصبح يوماً خبيث النفس) وهذا خبر عن حال الغير، وهل يجوز إنسان أن يقول عن نفسه: خبثت نفسي؟ أو إذا سألته تقول: ما لك؟ يقول: خبيث النفس أو يقول المسلم: أنا نفسي خبيثة؟
الجواب
لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال: (لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي).
قال: فقال بعض بطارقته: (قد استنكرنا هيئتك).
قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء -أي: أنه كان منجّماً يعرف الأخبار عن طريق النجوم.
فقال لهم حين قالوا له: قد استنكرنا هيئتك.
قال: (إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر).
وفي رواية: (مُلك الختان قد ظهر).
وهذا يدل على أن العرب في الجاهلية قبل الإسلام كانوا يختتنون.
أي: أن الختان ليست عادة فرعونية.
قال: (إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟).
أي: أنه يريد أن يعرف من على وجه الأرض يختتن؟ قال: (قالوا: ليس يختتن إلا اليهود).
وكأنهم يقولون له: النصارى لا يختتنون، إنما اليهود من عادتهم الختان.
قالوا: (فلا يهمنك شأنهم).
أي: يا هرقل! لا يهمك، وهذه هي بطانة السوء التي تستدرجه.
قالوا: لا تخف.
الذين يختتنون على وجه الأرض كلها اليهود.
قالوا: (واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود).
وكأن هذه نصيحة يقولون له فيها: ابعث رسائل للولاة والأمراء والملوك من الباطن أن يتتبعوا رعاياهم فإن وجدوا يهودياً قتلوه.
قال: (فبينما هم على أمرهم) أي: وهم يتداولون الكلام.
قال: (أُتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان) والملك هو الحارث بن أبي شمر الغساني أرسل برجل يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا: أمختتن هو أم لا؟).
وحينما أتى شخص من مكة لحق به ملك غسان، وأرسله إلى حمص عند هرقل، فدخل عليه فقال هرقل: أريد أن أنظر أصحاب مكة: هل هم يختتنون أم لا؟ قال: (فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن).
إذاً: الملك والرئاسة والنبوة الجديدة هذه أتت من جزيرة العرب.
قال: (وسأله عن العرب: أهم يختتنون؟ قال: نعم.
فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان اسمه ضغاطر، وكان نظيره في العلم) أي وكان ينظر في النجوم.
قال: (وسار هرقل إلى حمص) وحمص فتحها أبو عبيدة بن الجراح.
قال: (فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي).
أي: أن هرقل أرسل رسالة لـ ضغاطر وقال له: قد رأيت بعد نظري في النجوم أن نبي هذه الأمة العربي قد ظهر، فما رأيك: هل توافقني على ذلك أم لا؟ قال: ثم انطلق، وفي أثناء سيره إلى وجهته أتاه كتاب ضغاطر، وقد نظر في النجوم مثله فوافقه على أن ملك هذه الأمة قد ظهر، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص).
والدسكرة: هو القصر العظيم وحوله بيوت قد فتحت أبوابها في دهليز هذا القصر.
قال: دعا هرقل الناس جميعاً العظماء وغير العظماء في هذه الدسكرة وكان بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ قال: فحاصوا حيصة حمر الوحش -أي: كالبهائم- إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان -أي: أيس من إيمانهم بهذا النبي وفقد الأمل- قال: ردوهم علي.
وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم).
وهو في حقيقة الأمر كان يدعوهم إلى الإسلام، فلو أن هؤلاء وافقوه لكان هو أول من أسلم، لكنه حينما رأى نفرتهم وحيصتهم خاف على نفسه وعلى ملكه وعلى حياته.
وفعل ضغاطر في روميا نفس الذي فعله هرقل في الشام، فحاصوا عليه حيصة عظ