[معنى قوله في الحديث: (يسرق البيضة) (أو يسرق الحبل) وتأويل ذلك]
المبحث الثاني في هذا الحديث قوله: (يسرق البيضة فتقطع يده، أو يسرق الحبل فتقطع يده).
في الحقيقة أن البيضة لا يبلغ ثمنها ثلاثة دراهم وكذلك الحبل، فكيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يسرق البيضة فتقطع يده)؟ هناك تأويلات.
قالوا: المراد بها: بيضة الحديد، وحبل السفينة وكل واحد منهما يساوي أكثر من ربع دينار، وبيضة الحديد هي الدرع الذي يتخذه المجاهد للدفاع عن نفسه، يقال: فلان حمته بيضته.
يعني: درعه الذي يتوقى به الضربات.
ونقول: فلان استأصل بيضة فلان.
أي: ضربه حتى أخذ منه عدة سلاحه، فقوله: (يسرق البيضة) أي: بيضة الحديد، وهي تبلغ أكثر من ثلاثة دراهم.
وكذلك حبل السفينة وهو الحبل العظيم الذي تربط به السفينة في مرساها، لكن المحققين أنكروا هذا التأويل وضعفوه وقالوا: بيضة الحديد وحبل السفينة لهما قيمة ظاهرة، وليس هذا السياق موضع استعمال القيمة الظاهرة، لأنه بداهة كما أقول: لعن الله السارق يسرق البقرة فتقطع يده، فمن المعلوم أن البقرة لها قيمة أكثر من ربع دينار بل أكثر من دنانير كثيرة، فالنص إنما ورد للزجر الشديد عن أن تمتد اليد إلى غير مالها وإن دق أو قل، فلا يستوي أن يكون هذا الزجر مع الشيء الذي له قيمة ظاهرة كحبل السفينة وبيضة الحديد.
هكذا قال المحققون.
وقالوا: بل بلاغة الكلام تأباه؛ لأنه لا يذم في العادة من خاطر بيده في شيء له قدر وإنما يذم من خاطر بها فيما لا قدر له، فهذا موضع تقليل لا تكثير.
وقد يعمل الإنسان عملاً صغيراً في نظر العرف وهو عند الله عظيم، وقد يعرض نفسه لعذاب مهين بسبب عود من أراك، أو شملة غلها من الغنيمة قبل أن توزع، أو عباءة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كلا والذي نفس محمد بيده، إني لأرى الشملة تشتعل عليه ناراً) مع أنه كان مجاهداً وكان معرضاً نفسه للقتل في ساحة الوغى، لكن نفسه الضعيفة في لحظة غفلة أمرته أن يأخذ عباءة من الغنائم قبل أن توزع فمنعته هذه العباءة رغم رداءتها وقلة نفاستها أن يكون مع أول الداخلين إلى الجنة، وكانت سبباً في تعذيبه وهلاكه؛ ولذلك قال الصحابة: (إنه في الجنة)، وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لحسن ظنهم في أخيهم، فقالوا كان خادماً للنبي عليه الصلاة والسلام ومولى له: (إن مولىً لرسول الله استشهد فدخل الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إنه قد غل شملة وإني لأراها الآن تشتعل عليه ناراً) سبحان الله! رداء حقير، ومع هذا يشتعل عليه ناراً.
وكذلك السارق يعرض نفسه إلى قطع يده في شيء ليس محل استنكار العرف، وهناك من يعرض نفسه للهلاك أو القتل أو الرجم أو غير ذلك بسبب شيء تافه، ولا شك أن الشيء الكبير محل ذم، لكن القليل الذي يعرض صاحبه للحد أكثر ذماً، والله أعلم.
قال الإمام النووي: (الصواب أن المراد: التنبيه على عظم ما خسر -وهي يده- في مقابلة حقير من المال وهو ربع دينار، فإنه يشارك البيضة والحبل في الحقارة).
فالبيضة في وسط البيض شيء حقير، والحبل في وسط الحبال شيء حقير، كذلك الربع دينار في وسط الدنانير شيء حقير.
هذا تأويل.
قال: (أو أراد جنس البيض وجنس الحبل).
فالذي يسرق بيضة إن تيسر له أن يسرق بيضاً سرق، والذي يسرق الحبل إن تيسر له أن يسرق حبالاً سرق، فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم الجزء وأراد الكل بإرادة الجنس لا إرادة هذا الشيء المذكور، فقوله: (يسرق البيضة) أي: جنس البيض.
وقوله: (يسرق الحبل) أي: جنس الحبل، فيحد حينما يسرق ببيض متقوم بربع دينار فصاعداً، أو بحبال متقومة بربع دينار فصاعداً.
قال النووي: (أو أنه إذا سرق البيضة فلم يقطع جره ذلك إلى سرقة ما هو أكثر منها فقطع).
وهناك مثل يقول: الذي يسرق البيضة يسرق الجاموسة.
يعني: يجره سرقة القليل إلى سرقة الكثير، فإذا كنت تسرق البيضة ولا تقطع يدك فإنه سيأتي عليك اليوم الذي تسرق ما هو أعظم من البيضة ويقدر بنصاب القطع فتقطع يدك فيه؛ وذلك لأنك ألفت السرقة من أول الأمر.
قال: (فكانت سرقة البيضة هي سبب القطع).
أي: هي السبب لمبدأ السرقة لا لمبدأ أنه سرق بيضة.
قال: (أو أن المراد به: قد يسرق البيضة أو الحبل فيقطعه بعض الولاة سياسة).
لكن هذا كلام فيه شذوذ شرعي.
قال: (وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا عند نزول آية السرقة مجملة من غير بيان نصاب فقاله على ظاهر اللفظ، والله أعلم).
يعني: لما أنزل الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:٣٨] فقطع النبي أول الأمر في أقل السرقة أو في كل ما هو سرقة، ثم أتاه الوحي بعد ذلك أنه لا قطع في أقل من ربع دينار، وهذا أيضاً بعيد.