أما قراءة القرآن للميت قال: مذهب الشافعي والجمهور: أنها لا تلحق الميت، يعني: ثوابها لا يصل إلى الميت، وهذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، ومفاد هذه المسألة باختصار وإيجاز شديد: أن المرء لو قرأ قرآناً يريد بذلك إيصال ثوابه إلى الميت، هل هذا العمل نفسه مشروع أم غير مشروع؟ مثلاً لو توفي والدي وأردت أن أقرأ ربع سورة البقرة، أنوي ثواب هذه القراءة لوالدي، هل هذا العمل مشروع؟ محل نزاع بين أهل العلم.
بعضهم قال: مشروع، وبعضهم قال: غير مشروع؛ لأن هبة الثواب إلى الغير وإن كان قليلاً هي حرمان أجر العمل، أنا قلت: يا رب أنا قرأت البقرة، لا أريد ثواباً، وثوابها وهبته لوالدي، فإن قلت ذلك فإنه لن يبقى لي ثواب؛ لأني نذرت عنه، كما أن في ذلك الافتئات على الله عز وجل، والتجرؤ والتعدي على الله عز وجل؛ فما يدريني أن لي ثواباً في هذا العمل؟ وكأني أقطع على الله عز وجل أنه قد أثابني، وأوجب عليه الثواب في هذا العمل، وأنتم تعلمون أن هذا هو مذهب المعتزلة، فهم يقولون بالعدل، والعدل عندهم هو وجوب إثابة الطائع، فلما كان هذا العمل في ظاهره الطاعة، فإنه يجب على الله تعالى أن يكافئ صاحبه فوراً.
الأمر الثاني: وهو أن كل ما يعمله الولد من عمل صالح فوالداه شريكان معه في الأجر من غير أن ينقص من أجره شيئاً، كما قال عليه الصلاة والسلام:(إن خير مال العبد من كسب يده، وولده من كسبه)، فولدك هو أيضاً لك، فإن كنت قد ربيته على الدين والاستقامة فلا غرو أن يكون لك حظ في كل عمل يعمله ذلك الولد حتى وإن لم يقصد صرف الثواب لك، وكذلك مشاركة الوالد لك في الثواب لا تؤثر على ثوابك أنت، كما قال عليه الصلاة والسلام:(ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)، فلو أن شخصاً الآن يعلم ابنه الصلاة والصيام والزكاة والحج وقيام الليل وقراءة القرآن ويأخذه إلى أماكن الفضيلة ويحصنه من الرذيلة، ويوصيه بالليل والنهار أن هذه منهجه في حياته وبعد مماته -فإن كل عمل يعمله الولد يكون في صحيفة حسنات الوالد، مع عدم تأثر صحيفة حسنات العامل الأصلي- أي: الولد، هذا بخلاف رجل سكير عربيد زان فاجر سارق يحمل ولده وامرأته وابنته على البغاء والزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك، والأولاد يفرون منه فراراً، وهو جاثم على صدورهم فما إن مات حتى استراحوا منه، والأمر كما قال عليه الصلاة والسلام:(مستريح ومستراح منه قالوا: يا رسول الله ما مستريح وما مستراح؟ قال: أما العبد المؤمن إذا مات استراح من الدنيا وتعبها ونصبها، وإذا مات العبد الفاجر استراحت منه البلاد والعباد والشجر والدواب)، أترون إلى مدى تأذي الناس منه؟ حتى الجمادات والأرض التي يمشي عليها تتأذى منه، فهذا الولد الذي منعه والده من حضور مجالس أهل العلم لا ينتفع به الوالد؛ لأنه لم يكن حريصاً على الصلاح، بل قام على ضده ونقيضه، وحمل أولياءه وأبناءه على غير الصلاح، ولكن الله تعالى وفقهم للصلاح، فلم يكن هذا من كسبه، وإنما هذا كسب اكتسبه الأولاد بتوفيق الله عز وجل لهم.
والذي يترجح لدي أن المرء إذا قرأ القرآن لا يجعل ثوابه لأبيه أو أمه أو لغيرهما، وإنما يعتقد أن عمله الصالح كله -بما فيه قراءة القرآن- ينتفع به الوالدان إذا كان قد رغبا في حياتهما في صلاح الولد حتى وإن لم تنصرف نية الولد إلى هبة الثواب إليهما، فإنهما إن شاء الله تعالى ينتفعان، وينتفع القارئ بذلك الثواب.