للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صفات الله من الأمور الغيبية]

القاعدة الثانية: صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية، والواجب على الإنسان نحو هذه الأمور الغيبية أن يؤمن بها على ما جاء دون أن يرجع إلى شيء سوى النصوص، فالأمور الغيبية الفيصل في إثباتها وعدم إثباتها وجود النص، ولو اجتمعت الأمة كلها -بل لو اجتمع أهل الأرض- على أن يثبتوا أمراً غيبياً ليس عليه دليل لا من كتاب ولا من سنة فقولهم مردود؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، والله عز وجل لا يطلع على غيبه أحداً من خلقه لا من الملائكة ولا الرسل إلا من أراد إطلاعه على ذلك فضلاً منه ومنة.

وإن ادعى رجل علم الغيب وأنه يأتيه وحي من الشيطان، وذكر أشياء فظهرت حقيقة بعد ذلك فهذا لا يخرجه عن كذبه وزوره وضلاله؛ لأننا عندنا أصل أصيل، وهو أنه لا يعلم الغيب إلا الله، ولما كانت ذات الله عز وجل غائبة عنا ويجب علينا الإيمان بذاته سبحانه وتعالى وبوجوده عز وجل لزم من ذلك أن نؤمن بأسمائه وصفاته، وكما أن الذات غائبة عنا فلابد وأن تكون الأسماء والصفات غائبة عنا، فلا نثبت منها لله تعالى اسماً أو صفة لم يثبته لنفسه، ولم يثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.

وفي المقابل لا ننفي عن الله عز وجل اسماً أثبته لنفسه، ولا ننفي عنه اسماً أثبته له النبي صلى الله عليه وسلم.

فالأسماء والصفات من الأمور التوقيفية؛ لأنها عبادة، ومعنى أنها توقيفية: أننا نتوقف عن النفي والإثبات حتى يأتينا الدليل، فهي ليست محل اجتهاد الأمة؛ لأنها من الأمور الغيبية، فلا يجوز لنا أن نثبت ما لم يثبت، ولا أن ننفي ما هو ثابت لله عز وجل.

قال الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث، أي: لا يحل لنا أن نتجاوز في الإثبات والنفي ما جاء في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا نصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

ويدل على ذلك القرآن الكريم والعقل الصحيح الموافق للنقل الصريح، ففي كتاب الله عز وجل يقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٣٣].

وفي هذا تحريم القول على الله تعالى بغير علم، فإذا كان هذا في الإفتاء وفي البلاغ وفي البيان فكيف بإثبات ما هو لازم لله عز وجل من أسمائه وصفاته؟ لا شك أن هذا أنكى وأشر.

وقال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:٣٦].

ولو أننا أثبتنا لله تعالى ما نفاه عن نفسه، أو نفينا عن الله تعالى ما أثبته لنفسه فلاشك أننا قد قفونا ما ليس لنا به علم، والله تعالى سيحاسبنا على أقوالنا وأسماعنا وأبصارنا وغير ذلك، كما في قوله: ((إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)).

وأما الدليل العقلي في إثبات الأسماء والصفات لله عز وجل فهو: أن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية، ولا يمكن أن يدركها العقل، فلا نصف الله بما لم يصف به نفسه ولا نكيف صفاته؛ لأن ذلك غير ممكن لنا، وغير معقول كذلك في الفطر السليمة.

ونحن الآن لا ندرك كيفية نعيم الجنة، رغم أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وهما لا تفنيان ولا تبيدان، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

والنبي صلى الله عليه وسلم لما وصف لنا شيئاً من ذلك ما وصفه إلا بعد أن اطلع عليه ورآه في الجنة، ولكنه ليس وصفاً تفصيلياً، وإنما وصف مجمل، والله عز وجل يقول: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:١٧].

فالله تعالى أخفى علينا ما هو مخلوق الآن من نعيم الجنة وعذاب النار، وروحك التي بين جنبيك -والتي إذا خرجت منك صرت جثة هامدة- مخلوقة لله عز وجل، ولا يمكن وصفها رغم أنها موجودة في بدنك، فكيف نصف الله عز وجل ونشبهه بخلقه؟ فلابد من الإيمان بالأسماء والصفات كما جاءت، وهذا كان منهج السلف جميعاً، فقد كانوا يؤمنون بأسماء الله وصفاته، ويمرونها كما جاءت، ويؤمنون بها ولا يكيفونها، وإنا لنعلم قول أم سلمة وربيعة الرأي ومن بعدهم مالك لما سئل عن الاستواء قال: الاستواء معلوم -أي: في لغة العرب، وهو الارتفاع والعلو- والكيف مجهول.

ومذهب أهل السنة والجماعة تفويض الكيف لا تفويض المعنى، ومن قال: إن السلف كانوا يكيفون المعنى فقد أعظم عليهم الفرية، فإن السلف لم يكونوا يكيفون، بل كانوا يفوضون الكيف دون المعنى.

قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدع