[الحكمة من تحريم اللباس وغيره على المحرم]
قال العلماء: والحكمة في تحريم اللباس المذكور، -يعني: العمامة، والسراويل، وغير ذلك من المذكورات المنهي عنها- أن يبتعد عن الترفه والتنعم، ويتصف بصفة الخاشع الذليل، وليتذكر أنه محرم في كل وقت، فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره، وأبلغ في مراقبته وصيانته لعبادته، وامتناعه من ارتكاب المحظورات والمعاصي، وليتذكر به الموت ولباس الأكفان، ويتذكر البعث يوم القيامة، حين يكون الناس حفاة عراة مهطعين إلى الداعي.
فكل الناس؛ الغني والفقير والوزير والرئيس وغير ذلك من جميع طبقات الناس على اختلاف مستوياتهم في ذلك الموقف يلبسون إزاراً ورداء، ولا أحد يتميز عن أحد، فالناس في هذا الموقف سواسية أمام الله عز وجل، كما أنهم سواسية يوم القيامة، لا يفضل أحد على الآخر إلا بتقوى الله عز وجل، والعمل الصالح.
والصلوات في جماعة خلف الإمام صورة مصغرة من هذا، فليس الصف الأول محجوزاً للكبار، ولا الثاني للعمداء، ولا الثالث للعقداء، فهذه لا توجد إلا في ضباط الجيش، ويكتبون على الجدار في كل مسجد كتيبة: تنبيه: ممنوع دخول أي عسكري مجند أو متطوع إلى الصف الأول في صلاة الجمعة؛ لأن هذا صف الضباط الكبار، وحتى ضابط الاحتياط يجلس في أي مكان إذا علم أن الضباط الكبار سيملئون المكان.
وأنا مرة جلست خلف الإمام بعدما ترحلنا من التدريب، فجلست في مكان العميد؛ لأن الضباط يأتون وقت إقامة الصلاة أو في أثناء الخطبة، فغمز لي أحد الضباط أثناء الخطبة أن هذا مكان قائد الكتيبة، فسكت ولم أرد عليه، وبعد الصلاة وجدت حوالي خمسة عشر ضابطاً حولي، فذهبت إلى قائد الكتيبة فقال لي: لماذا جلست في هذا المكان؟ فقلت: وماذا في هذا المكان؟ فقال لي: عندما دخلت المسجد لماذا لم تجلس في أي مكان؟ قلت: جلست في أي مكان، قال لي: هذا مكاني، قلت له: لماذا لا تأتي مبكراً حتى تجلس فيه؟ قال: هل أنت تناقشني أيضاً، قلت له: هذا هو السنة، ثم إني حرمت من الإجازة ولم أعط إلا ثلاثة أيام فقط بعد أسبوع؛ من أجل أنني صليت في مكان العميد.
والإنسان عندما يتجرد من لباسه ويلبس الإزار والرداء يختلط بغيره، فلا يعرف الشريف من الوضيع، وهما عند الله سواء إلا بالتقوى، والمرء بهذا اللباس يتذكر الموقف والمحشر بين يدي الله عز وجل، يوم أن يكون كل واحد مشغولاً بنفسه فقط، إلا النبي عليه السلام يقول: (رب أمتي أمتي).
عليه الصلاة والسلام.
والإزار والرداء يشبهان الكفن، وجمع الناس في مزدلفة أو منى أو عرفات يذكرك بالمحشر، وهذا الزي يذكرك بالكفن، وأنك ستخرج من الدنيا بمثل هذين الثوبين، فموسم الحج من منافعه أنك تعرف قدرك، كما قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:٢٨].
ومن أعظم المنافع: أن تتذكر أنك ابن آدم، وأنك خطاء، وأن الله يتوب عليك إن تبت إليه وأنبت وكنت صادقاً مخلصاً في هذه التوبة، وإذا كان الأمر كذلك فعليك أن تتذكر أنك كالميت يمشي في أكفانه.
ولذلك لما وقع رجل فوقصته ناقته فمات وكان محرماً قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه، ولا تمسوا ثوبه شيئاً من زعفران؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، يعني: يبعث على نفس الهيئة التي مات عليها.
فلابد للمرء أن يتذكر قدره وقيمته، وأنه مهما ارتفع فإن الأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري من حديث أنس: (ما ارتفع شيء قط من أمور الدنيا إلا كان حقاً على الله تعالى أن يضعه).
فمهما ارتفعت وعلوت فإنك في قبضة المولى عز وجل يفعل بك ما يريد بقوله: كن، سبحانه وتعالى.
فاعلم أنك بين يدي الله عز وجل أكنت محرماً أم غير محرماً، وإذا كنت تتذكر هذا وأنت محرم، وتغفل عنه في ثيابك بعد الإحرام؛ فاعلم أنك ما خرجت بالمنفعة التي كان ينبغي عليك أن تخرج بها من هذا الإحرام.
والجماع ومقدماته، والكلام الذي يثير ذلك حرام على الرجال والنساء في الإحرام.
والحكمة في تحريم الطيب والنساء أن يبعد عن الترفه وزينة الدنيا وملاذها ويجتمع همه لمقاصد الآخرة.