للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان متى يحمل الحديث الخاص على العام ومتى لا يحمل]

وإذا كان هناك حديث عام وحديث خاص فإنا نحمل الخاص على العام، وإذا اختلف المخرج -أي: مخرج الروايتين الخاصة والعامة- فهذا يدل على شمول الحكم العام لأفراد الخاص، وهذه مسألة أصوليه، فمخرج رواية اليهود والنصارى من طريق أبي موسى الأشعري، وحديث: (لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار) من طريق أبي هريرة، إذاً: فالمخرج مختلف، فيجب العمل بهما جميعاً، وحمل الخاص على العام من باب اعتبار أن الخاص هو أحد أفراد العام، فمثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام بلياليهن إلا مع ذي محرم، ومسيرة يومين إلا مع ذي محرم، ومسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم، ومسيرة بريد أو فرسخ إلا مع ذي محرم)، ثم في الرواية الأخرى: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم).

والروايات الأولى كلها مقيدة: ثلاثة أيام، يومين، يوم وليلة، بريد أو فرسخ، والرواية الأخرى بغير قيد، فهي رواية مطلقة، وفي هذه الحالة لا يحمل العام على الخاص، والعام لا يحمل على الخاص إلا بشروط أهمها: اتحاد المخرج، أي: أن الروايات من طريق صحابي واحد، وأما إذا تعددت المخارج فلا يحمل العام على الخاص، وإنما يحمل هذا على تعدد الحوادث، أي: أن رجلاً سأل رسول الله: هل تسافر المرأة من غير محرم مسافة ثلاثة أيام؟ فقال له: لا، وجاء رجل آخر وقال: هل تسافر المرأة مسيرة يومين من غير محرم؟ فقال له: لا، وجاء رجل ثالث فقال: هل تسافر المرأة مسيرة يوم من غير محرم؟ فقال له: لا، وسأل رجل رابع: هل يحل للمرأة أن تسافر من غير ذي محرم؟ فقال: لا.

والنبي عليه الصلاة والسلام أفتى كل واحد على حسب سؤاله، وهذا الذي يعرف عند العلماء بتعدد الحوادث إذا اختلف المخرج، أما إذا اتحد المخرج يحمل فإنه الخاص على العام.

والحديث الخاص بذكر اليهود والنصارى جاء من طريق أبي موسى الأشعري، وأما حديث أبي هريرة في أن الله تعالى جعل لكل أحد منزلين: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فهذا حديث عام؛ لأنه يشمل كل أحد من اليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم، والمخرج مختلف، فلا بد أن نعمل بالحديثين، فاليهود والنصارى أحد أفراد العموم الوارد في حديث أبي هريرة.

قال: (ومعنى هذا الحديث ما جاء في حديث أبي هريرة لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار؛ لاستحقاقه ذلك بكفره).

فالمؤمن يدخل الجنة ويزاد على ذلك مكاناً آخر، ولو أنه كفر أدخل النار، ويزاد على ذلك مكاناً آخر بسبب كفره.

قال: ومعنى فكاكك من النار: أنك كنت معرضاً لدخول النار لو أنك كفرت، ولكنك آمنت، فهذا اليهودي أو النصراني أو الكافر فكاكك؛ لأن الله تعالى قدر للنار عدداً، فإذا دخلها الكفار بكفرهم وذنوبهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين.

وأما قوله: (يجئ يوم القيامة أناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله) فمعناه: أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين، ويسقطها عنهم، ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم، فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين؛ لأن الله تعالى غفرها، والغفران هو المحو، ولا يترتب من محوها معاقبة الغير عليها، وهذا في عالم البشر لعب أطفال، والله تعالى منزه عن هذا كله.

قال: فمعنى هذا الحديث: أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين، ويسقطها عنهم، ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين.

وقوله: (يضعها) مجاز، والمراد: يضع عليهم مثلها بذنوبهم كما ذكرناه أنفاً، ولما أسقط سبحانه وتعالى عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم -لأن الكفر لا يغفر- صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين؛ لكونهم حملوا الإثم الباقي، فاستحقوا المكان الآخر في النار، وهو إثمهم بكفرهم.

ويحتمل أن يكون المراد: أنهم يحملون آثاماً بسبب أنهم سنوا الكفر، ودعوا إليه، وعاندوا وجحدوا الإسلام، فتسقط عن المسلمين بعفو الله تعالى، ويوضع على الكفار مثلها لكونهم سنوها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، والله تعالى أعلم.