[إقرار أهل الجاهلية الأولى بتوحيد الربوبية]
وهؤلاء المشركون مقرون أن الله تعالى هو الخالق وحده لا شريك له، ويشهدون بذلك.
وتوحيد الربوبية هو: اعتقاد أن الله تعالى الخالق البارئ المصور المهيمن المدبر لأمر الخلائق المحيي المميت؛ وكل هذا كان يعتقده أهل الجاهلية، بخلاف ما عليه المسلمون اليوم، فإنهم يعتقدون أن الرازق الله وغير الله، ولذلك تجد أحدهم يقول: إن رزقي عندك، أو إن رزقي عند هذا المدير، أو عند رئيس مجلس الإدارة، أو إن أكلي وأكل أولادي في يده، وكل هذا شرك في الربوبية.
قال: وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن عبيده، وتحت تصرفه وقهره وتدبيره.
فأهل الجاهلية كانوا يعتقدون ذلك، ولم يكونوا يشركون مع الله عز وجل في ربوبيته أحداً.
وإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بهذا، ويقرون بتوحيد الربوبية فاقرأ قول الله عز وجل: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:٣١]، فهم يردون ويقولون: الله هو الذي يملك هذا كله، {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:٣١].
وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:٨٤ - ٨٩].
فكل هذه الآيات وغيرها من الأحاديث تدل على أن أهل الجاهلية المشركين ما كانوا يشركون في ربوبية الله عز وجل، وإنما كان شركهم في العبادة، فقد كانوا يشركون مع الله عز وجل في العبادة آلهة غيره.
فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا، وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة، كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهاراً، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعو رجلاً صالحاً مثل اللات والعزى، أو نبياً مثل عيسى، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:١٨].
وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد:١٤]، وتحققت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدعاء كله لله عز وجل، فلا يدعى غيره سبحانه وتعالى، وأن يكون النذر كله لله، فمن نذر لغير الله فقد عصى الله عز وجل وأشرك، وأن يكون الذبح كله لله تعالى، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل ولا لأحد الصالحين، ولا استعانة إلا بالله عز وجل، وجميع أنواع العبادة كلها لله يجب صرفها لله عز وجل، فمن صرف شيئاً مما يجب صرفه لله عز وجل لغير الله فلا شك أنه قد أشرك مع الله عز وجل إلهاً غيره.
فإذا عرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء إنما كان لأجل أنهم يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك، وأنه هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله، أو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله).
فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً أو شجرة أو قبراً أو جنياً، ولم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده، يعني: هم لا يشركون في الربوبية، وإنما يشركون في العبادة والألوهية.
فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليدعوهم إلى كلمة التوحيد، وهي قوله: لا إله إلا الله.