[اشتغال النووي بعلم الحديث ودفاعه عن عقيدة السلف]
فاشتغال النووي بعلم الحديث وبُعده عن علم الكلام جعله يوافق أهل السنة والجماعة في مسائل كثيرة جداً من مسائل العقيدة، السر في ذلك بركة اشتغاله بعلم الحديث؛ لأن الذي يشتغل بعلم الحديث لا بد أن يتعرض لأقوال الشُرّاح، ومعظم أهل الحديث إنما كانوا على نهج أهل السنة والجماعة إلا ما ندر.
قال: مثل دفاعه عن عقيدة السلف في مسألة خلق الله لأفعال العباد، وإثبات رؤية الله عز وجل يوم القيامة، ودفاعه عن عقيدة السلف في حقيقة الإيمان وزيادته ونقصانه، والاستثناء فيه، وكلامه على حكم مرتكب الكبيرة وكلامه في النبوات عامة، وكذا في السمعيات، ودفاعه عن مذهب أهل السنة في الإمامة والصحابة والتفضيل بينهم.
الإمام النووي دافع ونافح عن هذه المسائل أيما دفاع وأيما منافحة، فهذه المسائل بين أهل السنة وبين أهل البدع فيها خلاف عظيم وهوّة شاسعة على جهة الخصوص، فكون الإمام النووي يتبنى مذهب أهل السنة والجماعة في هذا وينافح ويدافع عنه ضد المعتزلة، بل وضد الأشاعرة أنفسهم الذين يُنسب إليهم الإمام النووي إنه ليدل دلالة واضحة على أن الإمام النووي لم يكن أشعرياً ولا معتزلياً، وقد تضمنت هذه التقريرات ردوداً على أهل الزيغ والضلال، وصرّح الإمام النووي بأسماء كثير من الطوائف المبتدعة والملل المنحرفة، مثل: الشيعة والرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية والمرجئة والكرّامية وغيرهم.
ونستطيع أن نقرر هنا باطمئنان أن هذا الشرح ساهم في الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح في هذه الأمور، وهو شرح الإمام النووي، وذلك من خلال الرد على من تجنبها من أهل الكلام، ومن سلك مسلكهم معتمداً على ما قرره السابقون في مصنفاتهم المعتبرة في العقيدة وغيرها.
ومن الجدير بالذكر هنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية حينما قرر ميل أبي حامد الغزالي إلى الفلسفة لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية قال: وقد حكي عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه، ورد عليه أبو عبد الله المازري في كتاب أفرده، إلى أن قال: ورد عليه الشيخ أبو البيان والشيخ أبو عمرو بن الصلاح وحذّر من كلامه في ذلك هو وأبو زكريا النووي وغيرهما.
فكون النووي يحذر من كلام أبي حامد الغزالي في مسألة الصفات أو مسائل العقيدة على سبيل الإجمال، فلا شك أنه يرتضيه، فالذي يختلق كلاماً يلزمه أن ينافح عنه لا أن يرده وأن يسب أو يذم قائله، وهذا الذي فعله الإمام النووي أنه رد على الغزالي وأبطل قوله، مما يؤيد ويساعد ويشجّع على أن الإمام النووي إنما كان من أهل السنة والجماعة لا من أهل البدعة، وأقصى ما يقال: إنه وافق أهل البدع، أو وافق الأشاعرة والخلف في بعض المسائل عن اجتهاد منه وتأويل، فنسأل الله تعالى أن يغفر له، وأن يتجاوز عن سيئاته.
ولا يفوتنا بهذا الصدد إلى أن نشير إلى أن الإمام النووي خالف الأشاعرة مخالفة صريحة في مسألة أول واجب على المكلف، ونصر فيها مذهب السلف فقال في المجموع الجزء الأول في بداية الكلام صفحة (٢٤) أو (٢٥): وأما أصل واجب الإسلام وما يتعلق بالعقائد فيكفي فيه التصديق بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: التصديق على سبيل الإجمال، أي: تصديق العوام للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال دون التفصيل، فهذا الذي قاله الإمام النووي.
قال: أول ما يلزم المسلم أن يصدق بكل ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا التصديق إنما يعتقده اعتقاداً جازماً سليماً من كل شك، ولا يتعين على من حصل له هذا تعلم أدلة المتكلمين، أي: ليس فرض عين على كل مسلم أن يتعلم أدلة المتكلمين.
والمتكلمون إنما هم المتأخرون.
قال: هذا هو الصحيح الذي أطبق عليه السلف والفقهاء والمحققون من المتكلمين من أصحابنا وغيرهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطالب أحداً بشيء سوى ما ذكرناه، وكذلك الخلفاء الراشدون ومن سواهم من الصحابة فمن بعدهم من الصدر الأول، بل الصواب للعوام وجماهير المتفقهين والفقهاء الكف عن الخوض في دقائق الكلام مخافة من اختلال يتطرق إلى عقائدهم يصعب عليهم إخراجه، بل الصواب لهم الاقتصار على ما ذكرناه من الاكتفاء بالتصديق الجازم، وقد نص على هذه الجملة جماعات من حذاق أصحابنا الشافعية وغيرهم، وقد بالغ إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى في تحريم الاشتغال بعلم الكلام أشد مبالغة، وأطنب في تحريمه، وتغليظ العقوبة لمتعاطيه، وتقبيح فعله، وتعظيم الإثم فيه، فقال: لئن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام.
وألفاظه بهذا المعنى كثيرة.