[خلاف العلماء في من يحلف القسامة]
قال: (واختلفوا فيمن يحلف في القسامة) يعني: من يبدأ بالحلف بالقسامة، وسميت قسامة؛ إما لكثرة القسم، وإما لوجوب القسم على الطرفين؛ لأنه في أي خصومة أخرى فإن القسم على المدعى عليه، وهو المتهم، أما في القسامة فالقسم على المتهم وهو المدعى عليه أو على المدعي، فإما أن يكون لكثرة القسم وأنه ليس يميناً واحداً ولا ثلاثة بل خمسين يميناً، وإما أن ذلك لوجوب القسم على الطرفين فسمي قسامة.
أما من الذي يحلف: (قال مالك والشافعي والجمهور: يحلف الورثة -يعني: كل من وجب له الإرث- ويجب الحق بحلفهم خمسين يميناً).
ولو أن أولياء القتيل خاصة وهم الورثة حلفوا خمسين يميناً فقد استوجبوا واستحقوا صاحبهم -أي: القاتل- فإن عفوا عن القصاص فلهم الدية.
وهذا الحديث فيه التصريح بالابتداء بيمين المدعي، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: (احلفوا خمسين يميناً)، فلم يطالبهم بالبينة، وإنما طالبهم بالقسم، فإذا أقسموا استحقوا صاحبهم وإلا حلف صاحبهم فبرأت ساحته، وهذا عند النكول عن القسم والامتناع، أما إذا أقسم أولياء القتيل أو الورثة فقد استحقوا حق صاحبهم.
قال الجمهور: (يحلف الورثة، ويجب الحق بحلفهم خمسين يميناً، واحتجوا بهذا الحديث الصحيح، وفيه التصريح بالابتداء بيمين المدعي وهو ثابت من طرق كثيرة صحاح لا تندفع.
قال مالك: الذي أجمعت عليه الأئمة قديماً وحديثاً أن المدعين -أي: أولياء القتيل- يبدءون في القسامة؛ لأن جنبة المدعي صارت قوية باللوث) أي: بالأمارات وشبه الدلالات، ولأنهم أصحاب دعوى ليسوا محل تهمة، وأعظم دليل على ذلك ما سماه العلماء هنا باللوث، واللوث هو الطي، واللي، والشر، والجراحات، واللوث عند الشافعي رحمه الله تعالى هو: شبه الدلالة.
واللوث في حديث القسامة: أن يشهد شاهد واحد على إقرار المقتول قبل أن يموت أن فلاناً قتلني.
فهذا اللوث هو الشاهد الوحيد الذي يشهد بيمينه على إقرار المقتول قبل أن يموت، أو يشهد الشاهدان على عداوة بينهما أيضاً، وهذا لوث إيضاً، وهو شبه دلالة، أو إشكال أو أمارة أن القاتل هو فلان، للعداوة التي كانت بينهما أو تهديد منه له قبل أن يموت أو نحو ذلك، كما في قصة قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قتله غلام المغيرة بن شعبة أبو لؤلؤة المجوسي عليه لعنة الله لما طعن عمر، قال عمر: من قتلني؟ مع أنه لم يقتل بعد.
قالوا: غلام المغيرة أبو لؤلؤة.
قال: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد رجل لم يسجد لله.
أي: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد شخص مشرك.
ثم قال: لقد هددني العلج آنفاً، والعلج: الغلام القبيح.
وقصة التهديد: أن غلام المغيرة لما جاء إلى عمر وهو أمير المؤمنين يشكو إليه الخراج الذي فرضه عليه مولاه وسيده المغيرة، قال له عمر: كم تدفع؟ قال: ثلاثة دنانير.
قال: ماذا تعمل؟ قال: أصنع الرحى، وأصنع كذا وكذا، فقال عمر: ما خراجك بكثير.
يعني: لم يظلمك المغيرة.
اصنع لنا رحى يا أبا لؤلؤة.
فقال أبو لؤلؤة: سأصنع لك رحى تتكلم عنها العرب والعجم.
فهذا كلام حمال يحمل على أني سأصنع لك رحى هي من الأعاجيب في الدنيا، يتمناها كل الناس، أو سأجعلك تدور في بركة دمائك، فلما طعن عمر من الغد قال: لقد هددني العلج آنفاً.
يعني: قد أنفذ ما هددني به البارحة، ففهم عمر رضي الله عنه بسرعة الدلالة من كلامه السابق فكان فيها لوث.
(قال القاضي: وضعف هؤلاء رواية من روى الابتداء بيمين المدعى عليهم، قال أهل الحديث هذه الرواية وهم من أحد الرواة؛ لأنه أسقط الابتداء بيمين المدعي ولم يذكر رد اليمين؛ لأن الروايات كلها متفقة على أن الذي يبدأ اليمين في القسامة هو المدعي، ثم إذا نكصوا ونكلوا عن القسامة رد اليمين إلى المدعى عليه).
يعني: تحول اليمين إلى المدعى عليه.
(ولأن من روى الابتداء بالمدعي معه زيادة، ورواياتها صحاح من طرق كثيرة مشهورة فوجب العمل بها ولا تعارضها رواية من نسي وقال: كل من لم يوجب القصاص واقتصر على الدية يبدأ بيمين المدعي، أو المدعى عليه إلا الشافعي وأحمد فقالا بقول الجمهور أن يبدأ بيمين المدعي فإن نكل ردت على المدعى عليه.