[أحكام العمرى وأحوالها وصورها]
قال العلماء في تعريف العمرى لغة: أعمرتك هذه الدار مثلاً، أو جعلتها لك عمرك، أو حياتك، أو ما عشت، أو ما حييت، أو ما بقيت، أو ما يفيد هذا المعنى، وعقب الرجل: هم أولاده وما تناسلوا عنه، يعني: أبناؤه وأبناء أبنائه، وإن نزلوا.
أحسن مذهب هو مذهب الشافعية فيما يتعلق بالعمرى؛ لأن العمرى تختلف: منهم من منعها مطلقاً، ومنهم من أجازها مطلقاً وأبطل الشرط، فالشافعية أتوا بتفصيل رائع.
قال النووي: (قال الشافعية: العمرى ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقول: أعمرتك هذه الدار، فإذا متَّ فهي لورثتك أو لعقبك؛ فتصح بلا خلاف) يعني: هذه العمرى صحيحة بلا خلاف بين أهل العلم، ويملك المعمَر بهذا اللفظ رقبة الدار، والرقبة هي الملك، والدار ليس لها رقبة، لكن الرقبة هنا تعبر عن أصل الشيء، فقولك: أعمرتك هذه الدار لبنيك، أي: لورثتك، هذا عقد تمليك بغير عوض؛ لأن العمرى من عقود الهبات، والعلة في كون العمرى بهذه الصورة عقد تمليك، أنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث، كما جاء في الحديث، (لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث)، ففي هذه الصورة وهذه الحالة العمرى جائزة بلا خلاف.
ثم قال: (ويملك بهذا اللفظ المعمَر رقبة الدار، وهي هبة، لكنها بعبارة طويلة).
فإذا أردنا أن نضع حداً وتعريفاً لهذه العمرى لعرفناها بألفاظ طويلة، والأصل في التعريف أنها قليلة المبنى، فلو قلنا: عقد البيع هو عقد ينتقل به الشيء إلى المشتري في مقابل عوض، فينتج عن هذا التعريف أشياء كثيرة جداً عندما نأتي لنشرحه، ومعظم التعاريف والحدود التي وضعها العلماء بعقد العمر ما هي إلا شرح لصور العمرى، وليس تعريفاً واحداً لها.
قال: (فإذا مات فالدار لورثته، فإن لم يكن له وارث فلبيت المال، ولا تعود إلى الواهب بحال خلافاًَ لـ مالك).
يعني: مالك هو الوحيد الذي أفتى بأن تعود إلى الواهب، أما جمهور أهل العلم فقالوا: لا تعود إليه بحال؛ لأنها خرجت من ذمته على سبيل الهبة، لا على سبيل المنفعة، فإذا مات هذا الرجل المعمَر؛ فقد ترك مالاً هو يملكه، ولا حق لمالك هذه الدار الأول فيها مطلقاً، فكيف تنتقل إليه وقد خرجت من ذمته هبة؟ يعني: تصور لو أنك أعطيت بعض مالك لرجل، وبمجرد أن وقع المال في يده فوضعه في جيبه خر ميتاً، هل يحل لك أن تأخذ هذا المال مرة أخرى؟ هذا المال قد خرج منك على سبيل الهبة، فإذا أخذته فكأنما رجعت تأكل قيئك مرة أخرى، والنبي عليه الصلاة والسلام ضرب بذلك أسوأ المثل بالكلب، ولا ينبغي لأحد أن يتشبه به.
قال: (الحال الثاني: أن يقتصر على قوله: جعلتها لك عمرك، ولا يتعرض لما سواه، ففي صحة هذا العقد قولان للشافعي، أصحهما وهو الجديد: صحته، وله حكم الحال الأول).
يعني: مذهب الشافعي الجديد الذي صنفه في مصر وأفتى به في العراق: أن هذا العقد صحيح، وحكمه نفس أحكام الحال الأول، وساوى بين قول المعمِر: أعمرتك إياها، وبين قوله: أعمرتك إياها ولعقبك من بعدك، فلو قال وأطلق: أعمرتك الدار، فهو كما لو قال: أعمرتك إياها ولعقبك من بعدك.
قال: (والثاني وهو القديم: أنه باطل.
وقال بعض أصحابنا: إنما القول القديم أن الدار تكون للمعمَر حياته، فإذا مات عادت إلى الواهب أو ورثته؛ لأنه خصه بها حياته فقط.
وقال بعضهم: القديم أنها عارية يستردها الواهب متى شاء، فإذا مات عادت إلى ورثته)، ذكرنا أن الرأي الأول هو الراجح في مذهب الشافعية.
ثم قال: الثالث: أن يقول: جعلتها لك عمرك، فإذا متَّ عادت إلي أو إلى ورثتي إن كنت مت) يعني: ما دمت حياً فهي لك اعمرها واسكنها مثلما تريد، فإذا أنت متَّ ردت إليَّ، وإذا مت أنا فتردها لورثتي.
ثم قال: (ففي صحته خلاف عند أصحابنا، منهم من أبطله، والأصح عندهم صحته، ويكون له حكم الحال الأول، واعتمدوا على الأحاديث الصحيحة المطلقة: (العمرى جائزة) وعدلوا به عن قياس الشروط الفاسدة، والأصح الصحة في جميع الأحوال، وأن الموهوب له يملكها ملكاً تاماً، ويتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات، وهذا مذهبنا، وقال أحمد: تصح العمرى المطلقة دون المؤقتة)، يعني: العمرى المشروطة بشرط غير صحيحة، إنما الصحيح منها المطلقة التي تنتقل إلى الورثة.
ثم قال النووي: (وقال مالك في أشهر الروايات عنه: العمرى في جميع الأحوال تمليك لمنافع الدار مثلاً، ولا يملك فيها رقبة الدار بحال، وقال أبو حنيفة بالصحة كنحو مذهبنا، وبه قال الثوري والحسن بن صالح وأبو عبيدة، حجة الشافعي وموافقيه هذه الأحاديث الصحيحة).
يعني: التي سبق ذكرها.
قال: (أما قوله عليه الصلاة والسلام: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها) إلى آخر الحديث، فالمراد به إعلامهم أن العمرى هبة صحيحة ماضية، يملكها الموهوب له ملكاً تاماً لا يعود إلى الواهب أبداً، فإذا علموا ذلك