[شرح حديث عمران بن حصين في رجم الغامدية وصلاة النبي عليها]
قال: [حدثني أبو غسان -وهو المسمعي مالك بن عبد الواحد - قال: حدثنا معاذ بن هشام - وأبوه هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي - قال معاذ: حدثني أبي عن يحيى بن أبي كثير اليماني حدثني أبو قلابة - عبد الله بن زيد الجرمي البصري - أن أبا المهلب حدثه عن عمران بن حصين: (أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا نبي الله! أصبت حداً فأقمه علي)] يعني: قارفت ذنباً عظيماً استوجب الحد، فطهرني منه.
قال: [(فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها فقال: أحسن إليها)] وهذا على غير عادة الناس فإنهم إذا زنت امرأة آذاها قومها وأولياؤها، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بالإحسان إلى هذه المرأة رغم أنها زانية، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يأمر بالإحسان إلى أصحاب الكبائر فما بالك بإحسانه عليه الصلاة والسلام مع أفاضل الصحابة كـ أبي بكر وعمر.
[(قال: أحسن إليها، فإذا وضعت فائتني بها.
ففعل، فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم، فشكت عليها ثيابها)] يعني: فشدت عليها ثيابها خلافاً للرجل، فإن الرجل حين إقامة الحد عليه لا يشد عليه ثوبه، إنما المرأة يشد عليها ثوبها ويحفر لها إلى صدرها وترجم وهي جالسة خلافاً للرجل، فالرجل يقام عليه الحد وهو قائم أو جالس، أما المرأة فإنه يقام عليها الحد وهي جالسة.
قولاً واحداً.
قال: [(ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها)].
والله تعالى يقول: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:١٠٣] فرحمة الله عز وجل في صلاة نبيه أمر معلوم يقيناً، لا أمر مظنون كما هو الحال في سائر الناس دون النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟)] وهذا القول من عمر يرد به على من قال: إن صلاة النبي عليها إنما هي الصلاة اللغوية بمعنى الدعاء، ولو كانت الصلاة في الحديث هي الدعاء دون الصلاة المشروعة وهي صلاة الجنازة لما كان لإنكار عمر على النبي وجه.
وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام صلى عليها صلاة الميت.
قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لقد تابت توبة لو قسمت -أي: وزعت- بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)] أي: لكفتهم حتى وإن كانوا أصحاب ذنوب وكبائر.
والمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في الأنصار قولاً عظيماً، وأثبت فضل الأنصار عموماً، وأثبت فضل كل أنصاري خصوصاً، وأثبت فضل كبار الأنصار من الأوس والخزرج، فكل واحد من فضل كبار القوم له مناقب شتى وجمة منها ما هو في الصحيحين ومنها ما هو في غيرهما، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم منزلة المهاجرين الأنصار في الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام في هذه المرأة الغامدية: [(لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة -أي: من الأنصار- لكفتهم، وهل وجدت -يا عمر - توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى)] يعني: هل هناك دليل على صدق توبة التائب من أنه يأتي ويجود بنفسه وهو يعلم يقيناً أنه سيرجم وأنه سيموت؟ هذه المرأة أصرت على التطهير وقيام الحد عليها بدليل أنها أتت مرة وقالت: (يا رسول الله! إني أصبت حداً).
فلما أمرها بالتوبة والرجوع إلى الله والاستغفار قالت: (يا رسول الله! لا تردني كما رددت ماعزاً بالأمس، إني زنيت، وإني حبلى من الزنا، قال: لا نقيم عليكِ الحد وأنتِ حبلى حتى تضعي) فرجعت المرأة، وأتت مرة أخرى وكان بإمكانها ألا تأتي، ولكن لصدق توبتها لفت وليدها في خرقة وأتت به إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (لا نقيم عليكِ الحد حتى تفطميه؛ فرجعت).
والمعلوم أن مدة الفطام طويلة تبلغ سنتين، فذهبت المرأة حتى أرضعت وليدها وفطمته، ثم أتت به وفي يده كسرة خبز؛ دليل على أنه الآن يأكل ويشرب ويعتمد على نفسه، وقد استغنى عن لبن أمه.
فكل هذه أدلة تشهد بصدق توبة المرأة، ولا عليها أنها زنت في لحظة ضعف تسلط الشيطان عليها، أو أن الأجواء هيأت الوقوع في المعصية فوقعت فيها، لكنها سرعان ما فاءت ورجعت إلى ربها، فهل على المذنب من بأس أو حرج إذا كان هذا شأنه وحاله؟
الجواب
ليس عليه من حرج، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والذي نفس محمد بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله تعالى، فيغفر الله لهم).
وقوله: (فيذنبون) كلام عام يشمل كبائر الذنوب وصغائرها.
فهذه المرأة أذنبت وماعز أذنب، لكننا لا نحتج بالقدر على المعصية إلا إذا تاب المذنب من ذنبه،