[معاني التأويل]
والتأويل له معان متعددة.
فيأتي بمعنى التفسير، وبمعنى العاقبة والمآل، وبمعنى صرف اللفظ عن ظاهره.
فقولك: تأويل هذه الآية كذا وكذا، أي: تفسير هذه الآية كذا وكذا؛ لأننا أولنا الكلام، أي: جعلناه يئول إلى معناه المراد به.
وأما التأويل الذي هو بمعنى عاقبة الشيء فقد يكون في الطلب وقد يكون في الخبر.
فمثال التأويل الوارد في الخبر قول الله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:٥٣].
فقوله: ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ)) أي: ما ينتظر هؤلاء إلا عاقبة ومآل ما يخبرون به، ويوم يأتي ذلك المخبر به {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:٥٣].
ومنه قول يوسف لما خر له أبواه سجداً: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:١٠٠]، أي: هذا وقوع رؤياي؛ لأنه لم يقل هذا إلا بعد أن سجدوا له بالفعل.
ومثاله في الطلب قول عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده بعد أن أنزل عليه قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:١] إلى آخر السورة: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)، يعني: يعمل به.
وإذا كان التأويل في معرض الطلب، والطلب للأمر كان التأويل بمعنى العمل به دون سواه.
المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره، وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن دل عليه دليل فهو محمود؛ لأنه يكون بمعنى التفسير أو العاقبة أو المآل، وإن لم يدل عليه دليل فهو مذموم، ويكون من باب التحريف وصرف النص واللفظ عن ظاهره، وليس من باب التأويل.
وهذا هو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله عز وجل، وسار عليه من تنكب طريق السلف في صفات الله عز وجل، فكانوا يصرفون اللفظ عن ظاهره على غير مراد الله عز وجل.
فمثلاً قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥].
فاستوى معلوم المعنى عند السلف وعند العرب في لسانهم؛ فهو بمعنى: علا وارتفع.
وهم يقولون: استوى بمعنى استولى، ولا شك أن من يقول هذا يكون قد صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل، وهذا تحريف.
والذي يحرف صفات الله عز وجل عن ظاهرها بغير دليل الأولى أن يقال عنه: إنه محرف.
والذين يقولون: نحن نؤول كلام الله عز وجل حتى نفهمه، ونؤول صفات الله عز وجل حتى نفهمها إنما هم محرفون، وليسوا مؤولين.
وأما صرف اللفظ عن ظاهره بدليل فمثل قول الله عز وجل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:١].
(فأتى) فعل ماض، (وأمر الله): الساعة، وهي لم تأت بعد، فيكون تفسير {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:١] أي: سيأتي أمر الله، فيكون الله عز وجل عبر عن المستقبل بصورة الماضي، وهذا جائز على الله عز وجل.
ومثل قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:٢٣].
فكان تفيد الماضي في حق غير الله عز وجل، ولو كانت في غير كلام الله عز وجل لقلنا: إنها زائدة، لأن قوله: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)) بمعنى إن الله غفور رحيم، فحذف كان لا يغير المعنى ولا السياق.
فيكون معنى قوله تعالى: ((أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)) أي: سيأتي أمر الله، والدليل على ذلك تعقيبه بقوله تعالى: ((فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ))، ومعلوم أن الاستعجال على أمر قادم، وليس على أمر فائت، وهذا يدل على أن الله تعالى عبر عن المستقبل بصورة الماضي في قوله عز وجل: ((أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)).
ومثل قول الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:٩٨].
والاستعاذة معلوم أنها في أول القراءة، وبهذا تكون الآية مصروفة عن ظاهرها، بدليل عمل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فقد كان إذا قرأ القرآن استعاذ بالله في أول القراءة.
فيكون معنى قوله تعالى: ((فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ)) أي: فإذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم.
وهذا مثل حديث أنس بن مالك قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).
والخبث: ذكور الشياطين، والخبائث: إناثهم.
فقوله: إذا دخل يعني: إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، أي: قبل أن يدخل؛ لأنه لا ينبغي أن يذكر الله عز وجل في مثل هذه الأماكن والأنتان والحش.
وأما التأويل الذي ليس عليه دليل صحيح الأولى أن نسميه تحريفاً؛ لعلل، منها: أن لفظ التحريف قد جاء في كتاب الله عز وجل، ولأنه ألصق بطريق ال