[معنى قوله: (ألا ليبلغ الشاهد الغائب)]
قال: [(قال: ألا ليبلغ الشاهد الغائب)] وفي هذا: إثبات أن الدعوة إلى الله عز وجل فرض كفائي إذا فعله البعض سقط عن الباقين.
يقول جمهور العلماء: وهذا فيما يتعلق بمسائل الاجتهاد.
أي: المسائل التي تحتاج إلى علم وبصيرة وأدلة.
أما المسائل العامة التي لا تحتاج إلى دليل فإن تبليغها واجب على كل إنسان، كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وتحريم الفواحش، وحل الطيبات، فهذا كل الناس يعلمونه، حتى الكافر يعلم ذلك، فإنه إذا رأى إنساناً يمد يد العون والصدقة، أو يغيث الملهوف أو غير ذلك لإنسان آخر فإنه لا يخفى عليه أن هذا عمل صالح.
ولو أن كافراً رأى مسلماً يزني، أو يسرق، أو يشرب الخمر، فقال له: اتق الله هذا مما حرمه الله؛ لأن الله تعالى حرم ذلك حتى على اليهود والنصارى، فهل يقول له المسلم: أنا لا أقبل منك؛ لأنك كافر.
لا يحل له ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لـ أبي هريرة عن الشيطان: (صدقك وهو كذوب).
فقد صدقه في هذا الموطن؛ لأنه لا حاجة له تدعوه إلى الكذب، فأحياناً الصدق والحق والخير يأتي من الكافر، والعدل قامت عليه السماوات والأرض، والحكمة هي ضالة المسلم فإنه يلتمسها حتى وإن كانت على يد كافر.
والنبي عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه ومنهم جعفر بن أبي طالب بالهجرة إلى الحبشة؛ لأن ملكها النجاشي رحمه الله لا يظلم عنده إنسان.
هذه هي العلة.
ولذلك لما ذهب عمرو بن العاص قبل إسلامه وكان داهية من دواهي العرب إلى الحبشة، قال للنجاشي: إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً.
فلم يرد على قول عمرو ابتداءً، ويقل له: أنت كذاب، وأنت مفتر، بل أمر بأن يحضر جعفر ومن معه فقال له: ماذا تقولون في عيسى؟ وماذا قال نبيكم وقرآنكم في عيسى؟ فقرأ عليه آيات من سورة مريم.
فقال النجاشي حينئذ: والله لا يعدو قول عيسى هذا العرجون، وتناول عصاً من الأرض، والعصا تسمى في لغة الحبشة العرجون.
قال: والله ما فارق أمر عيسى هذا العرجون.
يعني: القرآن الذي جاء الله به على لسان نبيكم وحي السماء، ليس أكثر ولا أقل منه في شأن عيسى، ولذلك نخر البطارقة الذين حضروا هذا المشهد نخراً عظيماً، وعلت أصواتهم كأنهم ينكرون على النجاشي أمره.
قال: والله لا يعدو أمر عيسى هذا العرجون مهما نخرتم وارتفعت أصواتكم.
لأنه رجل عدل، فإذا جاءتنا النصيحة ولو من مشرك كافر وثني قبلناها، وإذا جاءنا الشر من أعبد الخلق رددناه عليه.
الواحد منا إذا أتاه خبر من محب قبله، وإن كان شراً ستره ولم يفضحه؛ وهذا شيء طيب، لكن الذي يحتاج إلى تقويم هو أننا نرد الشر على من جاء به وإن كان محباً، ونقبل الخير ممن جاء به، ولو كان كافراً، ودائماً نقول: الحق يقبل من كل من جاء به، والشر يرد على كل من جاء به.
نحن قد وصلنا في وقت من الأوقات أننا لا نقبل أي شيء نهائياً من الأزهر، ومبرر ذلك أن علماء الأزهر هؤلاء علماء سلطة، علماء مال، نعم هم كذلك لكن ليس كلهم، فإن فيهم أناساً أفاضل.
وبعض الناس يقول: لو أن الأزهري قرأ القرآن سوف أتهمه.
وهذا بصراحة بغض مفرط جداً بصراحة، وغلو شديد جداً، وأنا شخصياً من سألني في مسألة الطلاق أقول له: اذهب إلى الأزهر، فإن هذه المسألة من مسائل الطلاق بعيدة عن الأموال والسياسة، ليس لهم فيها مصلحة، فإنهم يفتون بشرع الله، ففي هذه المسائل هم علماء فيها، وأساتذة كبار، حتى أنني مرة من المرات ذهبت مع شخص طلق زوجته فذهبت به إلى شيخ أزهري، فسأله الشيخ أسئلة كانت لا يمكن أن تخطر ببالي، تصور أنني قد عقدت في نفسي حكماً معيناً لهذه القضية المطروحة، ولما ذهبت وجلست بين يدي هذا الشيخ غيرت رأيي في القضية بناءً على إجابة هذا الإنسان السائل لأسئلة هذا الشيخ.
قال: [(ألا فليبلغ الشاهد الغائب)].
هذا فيه: حجة لجماعة التبليغ، فهم يحتجون بآيات القرآن الكريم التي تتكلم عن الجهاد أنه جهاد الدعوة، الدعوة نوع من أنواع الجهاد لكنها واجبة على أهل العلم، هم لا يقولون أنهم أهل علم، وفي حقيقة الأمر هم لا يسمحون لأحد قط أن يلقي درساً بين أيديهم، إنما الذي يلقي الدرس والذي يلقي البيان والذي يعمل كل شيء، والذي يقوم في الناس ويكلمهم يكون منهم.
تصور أن شخصاً منهم كان يشرب الخمر، ويقطع الصلاة ثم يهتدي ويدخل المسجد ثم يلقي البيان، ويحتج بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بلغوا عني ولو آية).
والمراد بـ (بلغوا عني ولو آية) يعني بلغوا العلم، ليس المقصود عين الآية، أو المقصود عين المسألة العلمية، إذا سألتني فيها وأنا على علم بها وجب علي البلاغ والإخبار.
إذاً: هذا الكلام كله الذي يستشهد به جماعة التبليغ من الكتاب والسنة على صحة منهجهم ليس استشهاداً صحيحاً في محله، إنما هو في غير محله، ومراد الله تعالى، ومراد الرسول عليه الصلاة والسلام من هذه الآيات وهذه الأحاديث ليس هو منهج جماعة التبليغ،