للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم توبة القاتل وأنواع الديات]

ومذهب أهل العلم وإجماعهم على صحة توبة القاتل عمداً، ولم يخالف أحد منهم إلا عبد الله بن عباس، وأما القاتل خطأ فإن كفارته كما قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:٩٢]، فمن صدم شخصاً بالسيارة فإن هذا قتل خطأ، وكذلك من وكز شخصاً فمات، قال تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:١٥] يعني: هو أصلاً لم يكن متعمداً، ولو لم يوكزه فإنه سيموت، لكن الوكزه كانت السبب، وكان قتلاً خطأ، فلم يتعمد موسى قتله صلى الله عليه وسلم، لكن مسكه في صدره أو رقبته فوقع على الأرض فمات، فهذا جزاؤه عتق رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا، وأما القتل العمد فإن اليهود عندهم أن القصاص واجب، ولا بد منه.

والنصارى عندهم التسامح واجب لا بد منه، وأما نحن فمخيرون بين القصاص، أو الدية، أو العفو، وهذا من رحمة الله بنا؛ لأننا أحسن منهم، ولهذا فإن الله رفع الأغلال عن هذه الأمة المباركة، ودية القتل العمد تكون بعد تحرير رقبة إذا لم يكن ثم قصاص، ومقدار الدية: مائة ناقة، والناقة قيمتها ثلاثة آلاف جنيه، فتكون الدية بثلاثمائة ألف جنيه.

وهناك فرق بين دية المرأة المؤمنة، ودية الرجل، وفرق بين دية الرقيق والأحرار من الرجال والنساء، وفرق بين دية أهل الكتاب والمؤمنين، وإذا كان أهل الكتاب مسالمين أو محاربين أو ناقضي العهد، وهذا موضوع طويل جداً سوف نتكلم فيه.

ودية القتل الخطأ على التخفيف من دية القتل العمد، والأصل أن دية القتل الخطأ على العاقلة، وهم أهل القاتل وليس على القاتل نفسه، وهذا فارق بين القتل العمد والقتل الخطأ: أن القتل العمد يتحمله القاتل، وأما القتل الخطأ فيتحمله أهل القاتل، وسموا العاقلة؛ لأنهم يأتون بهذه النوق ويربطونها -أي: يعقلونها- في مكان، ويسلمونها لأهل المقتول.

وابن عباس هو الوحيد الذي قال: إن قاتل المؤمن عمداً لا توبة له، والأمة بأسرها والصحابة كذلك يقولون: بأن قاتل المؤمن عمداً له توبة، وقيل: إن ابن عباس قد رجع عن هذا الرأي.

وأما ما ذكر عن بعض السلف من خلاف هذا فمراد قائله الزجر عن سبب التوبة، لا أنه يعتقد بطلان توبته، وهذا الحديث ظاهر فيه، وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:٦٨] إلى أن قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:٧٠].

وهذا الاستثناء يقطع هذه المعاصي السابقة، فلو كان أشرك ثم تاب قبلت توبته، ولو قتل ثم تاب قبلت توبته، وغير ذلك من سائر المعاصي، وأما قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:٩٣] أي: فجزاؤه إن شاء الله تعالى أن يجازيه، أن يخلده في النار، لكن له أن يجازيه، وله ألا يجازيه ويعفو عنه.

ثم إن قوله: {خَالِدًا فِيهَا} [النساء:٩٣] الخلود في لغة العرب يعني: المكث الطويل، بخلاف الأبدية السرمدية في النار للكفار والمنافقين، فلو أن هذا العبد قتل فأراد الله عز وجل أن يجازيه أدخله جهنم، وأبقاه فيها مدة من الزمان الطويل، فيكون من آخر من يخرج من النار بشفاعة الشافعين، فيكون معنى: جزاؤه جهنم خالداً فيها: أي: ماكثاً فيها مكثاً طويلاً، لا المكث الأبدي السرمدي.

والصواب في معنى هذه الآية: أن جزاءهم جهنم، وقد يجازى به وقد يجازى بغيره، وقد لا يجازى بل يعفى عنه، فإن قتل عمداً مستحلاً له بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد يخلد في جهنم بالإجماع.

ومن ارتكب كبيرة مستحلاً لها، متعمداً الوقوع والتلبث بها، مع قيام الحجة عليه أن هذا حرام، ولكنه أنكر وجحد وأصر على أنه ليس حراماً، وهو ليس متأولاً، ولا مخطأً، بل متعمداً، ومستحلاً، فهو كافر؛ لأن من حرم ما أحل الله، أو أحل ما حرم الله عامداً غير متأول لا شك أنه يكفر.