[صفاته التي أهلته للطلب ووصاياه لطلاب العلم]
هذا الذي نعده إنما يدلنا على أن الإمام قد حرص على أن يأخذ من كل فن بنصيب، ومن كل علم بحظ وافر، وما كان ينام من الليل إلا أقله: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:١٧ - ١٨]، وإذا غلبه النوم استند إلى الكتب لحظة ثم يفيق وينتبه، وضُرب به المثل في إكبابه على طلب العلم ليلاً ونهاراً، وهجره النوم إلا عن غلبة، وضبط أوقاته بلزوم الدرس أو الكتابة أو المطالعة أو التربي على الشيوخ، حتى إنه إذا مشى في الطريق كان يشتغل في تكرار ما يحفظ -أي: أنه في أثناء سيره لم يكن يضيع الوقت، ولكنه كان يراجع محفوظاته- فإذا وصل إلى الدرس التحم ذكره في الشوارع وقراءته ومراجعته لهذه الدروس بدرسه الذي يُسمعه الطلاب، فما كان يضيع من وقته لحظة واحدة، وهذا شأن الحريص على طلب العلم.
وكان قوي المدرك حاضر البديهة تنثال عليه المعاني انثيالاً في وقت الحاجة إليها -كان إذا أراد أن يستشهد بشيء أو يأتي بأدلة لمسألة كانت تنثال انثيالاً وكأنه يقرأ من كتاب- وهذا يدل على قوة القريحة لديه رحمه الله تعالى.
وكان يتعمق في المسائل العلمية ولا يكتفي بدراسة ظواهرها ولا يتقلد قول الغير فيها إلا بعد التحقق من صحة دليله وجودة مخرجه.
وكان رحمه الله تعالى يتمتع بحافظة قوية مستوعبة أتاحت له السيطرة الفكرية على ما يقرأ بحيث يربط أقصاه بأدناه، وأوله بآخره، وأجزاءه بعضها ببعض.
وكان رحمه الله تعالى تتمثل فيه الآداب التي ذكرها في كتابه المجموع في الجزء الأول من المقدمة، ذكر مقدمة في غاية الروعة والمتانة ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم، فكان من بين هذه العناصر والنصائح أنه قال: ينبغي للمتعلم أن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى، فلا يقصد به رياسة، ولا سمعة، ولا رياء، ولا إشارة بالبنان إليه، ولا عرضاً من أعراض الدنيا من جاه وسلطان ومال وغير ذلك، إنما يقصد به وجه الله تعالى، فمن كان طالباً للعلم فليعلم أن مطلوبه هو أعز وأشرف مطلوب، فليعد أعز العدة له، وأعزها وأفضلها إنما هو تقوى الله عز وجل والإخلاص في طلبه لله دون سواه، فهذا الإمام إنما نبّه وأكد على الإخلاص في طلب العلم في مقدمة تنبيهاته وتوجيهاته من المجموع.
ثم ثنى بعد ذلك بقوله: وأن يتحقق بالمحاسن التي ورد الشرع بها وحث عليها، والخلال الحميدة والسير المرضية التي أرسل إليها من التزهد في الدنيا والتقلل منها، وعدم المبالاة بفواتها، والسخاء، والجود، ومكارم الأخلاق، وطلاقة الوجه والبشاشة، وغير ذلك من مكارم الأخلاق.
ثم ثلث بقوله: وأن يحذر من الحسد والرياء والإعجاب واحتقار الناس وإن كانوا دونه درجات، وهذا ما نفتقده نحن الآن، فالواحد منا إذا طالع كتاباً واحداً لا يمكن التفاهم معه؛ لأنه يظن أنه قد حاز العلم بحذافيره، لمجرد أنه يقرأ الجزء الأول من فقه السنة يظهر عليه الكبر والعجب والتيه والخيلاء في مشيه وكلامه وجلوسه وقعوده ومعاملته مع الخلق، بل ومعاملته مع الله عز وجل، وذلك لأنه طلب على غير شيخ، ثم لم يعد العدة ولم يتهيأ ولم يتأدب بالآداب التي ينبغي أن يتعلمها أولاً قبل أن يتعلم العلم؛ ولذلك الحسن البصري يقول: نحن في حاجة إلى قليل من الأدب أكثر من حاجتنا إلى كثير من العلم.
وقيل للشافعي: كيف شهوتك للأدب؟ قال: والله إني لأسمع بالحرف الواحد منه فأتمنى لو تكون كل جوارحي آذناً حتى تنعم بهذا الحرف.
قيل له: كيف طلبك إياه؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره.
وانظر عندما تكون هناك امرأة ليس لها إلا ولد واحد، وهذا الولد ضل وتاه عنها، تبحث عنه بحث المجنونة عليه، فكذلك كان يفعل الإمام الشافعي، فينبغي قبل أن يطلب الطالب العلم أن يطلب الأدب؛ لأنه إن طلب الأدب أولاً انتفع بالعلم، وإن لم يطلب الأدب أولاً لم ينتفع لا بالعلم ولا بالأدب.
ثم يقول: وعليه أن يداوم مراقبة الله تعالى في علانيته وسره، محافظاً على قراءة القرآن والأذكار والدعوات ونوافل الصلوات والصوم وغيرها، معولاً على الله في كل أمره، معتمداً عليه مفوضاً في كل الأحوال أمره إليه.
ثم قال: وعليه أن يستمر مجتهداً في الاشتغال بالعلم قراءة وإقراءً، ومطالعة وتعليقاً، ومباحثة ومذاكرة، ولا يستنكف من التعلم ممن هو دونه في سن أو نسب أو دين أو في علم آخر أو غير ذلك.
وعليه أن يعتني بالتصنيف إذا تأهل له، أما إذا لم يتأهل له فلا شك أنه يحرم عليه أن يتصدى للتصنيف، وينبغي له أن يحرّض طلابه على الاشتغال في كل وقت، ويطالبهم بحفظ ما يلزم حفظه، وينير أذهانهم بطرح الأسئلة المهمة عليهم.
ومن أهم ما يؤمر به ألا يتأذى ممن يقرأ عليه إذا قرأ على غيره؛ لأنك إذا منعت طلابك من أن يسمعوا لغيرك فلا شك أنهم سيتعلمون الجمود؛ لأنه ربما لا تلقي عليهم أنت إلا رأياً واحداً هو الذي تعتنقه وتعتقده، فيخرج الطالب أفقه ضيّق جداً لا يعرف في كل مسألة إلا قولاً واحداً، فلو صدم بالرأي الثاني أو ا