للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العبرة بكثرة الفضائل]

أما القاعدة الرابعة التي ينبغي أن يلتزمها العبد في الحكم على الآخرين فإنها: العبرة بكثرة الفضائل.

وهذا كلام في مجمله: أن كل إنسان له خير وشر، فإن غلب خيره على شره غُفر له شره، وإن غلب شره على خيره دل على فساد نيته وسوء طويته، فلا شك أن من غلب شره كان الأصل فيه الشر، فإنه لا يُغفر له ذلك، وأما إذا غلب خيره على شره فإنه من أهل الصلاح وأهل السنة، يتمنون له ويرجون الله عز وجل أن يغفر له هذا الذي وقع فيه من باطل وشر.

يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله: والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه.

وكلمة ابن رجب هي بمثابة المنهج الصحيح في الحكم على الشخص، ومنهج السلف هو اعتبار الغالب على المرء من الصواب والخطأ، والنظر إليه بعين الإنصاف.

والإمام الذهبي يقول: ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن.

وقال أبو الحسن الصفار: سمعت أبا سهل الصعلوكي، وسئل عن تفسير أبي بكر القفال؟ فقال: قدّسه من وجه، ودنسه من وجه.

فلو نحن سألناك مثلاً عن تفسير الفخر الرازي قلنا لك: الفخر الرازي معتزلي، فما بالك بتفسيره؟ تقول: لن نقبله، بل إن الرازي يلف في خرقة ويلقى في الجحيم؛ لأنه معتزلي.

انظر إلى هذا الرجل قال: قدّسه من وجه ودنّسه من وجه، أي: أنه ذكر فضله أولاً، وما أصاب فيه أولاً، ثم ذكر بعد ذلك مساوئه، فقال: قدّسه من وجه ودنّسه من وجه، أي: دنسه من جهة نصره للاعتزال.

الذهبي يقول: والكمال عزيز، وإنما يُمدح العالم بكثرة ما له من الفضائل، فلا تُدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها، وقد يغفر الله له لاستفراغه الوسع في طلب الحق.

ولا قوة إلا بالله.

فالإمام الذهبي له أسلوب في سير أعلام النبلاء أو في التاريخ الكبير في الكلام عن العلماء المبتدعين بالذات من أهل البدع والزيغ والضلال، كـ ابن عربي مثلاً، فـ ابن عربي لا يحتمل إنسان منا أن يقرأ كلامه، لكن الذهبي في التاريخ الكبير يقول: نحن نبغضه ولا نحبه، ونخالفه ولا نوافقه، ولكن لعله تاب قبل أن يموت.

وأنا أقول هذا القول أيضاً في أبي حامد الغزالي، فإن أول قراءتك كتاب جزء الاعتقاد وإحياء علوم الدين: تقول: هذا الكلام لا يقوله إلا إنسان كافر، ولكن لو نظرت إلى كلام النقاد المحققين لوجدت الأمر فيه عجلة وسرعة، فهناك أعذار كثيرة جداً قد قدّمها العلماء المحققون في أمثال أبي حامد وابن عربي وغيرهم، فهناك أئمة كبار عظام في مذاهبهم قد تكلم عنهم الذهبي بكلام، فتجد، لو ذُكر لك ابن عربي تقول: ذلك الغبي، ذلك الكافر، فنحن نعلم أنه مبتدع، لكن على أية حال هو من أهل الذكاء ومن أهل العلم، وإنما خالف عقيدة أهل السنة، والله عز وجل يتولى الناس برحمته وفضله.

وقال الإمام الذهبي في ترجمة ابن حزم: وصنّف في ذلك -أي: في نفي القياس- كتباً كثيرة وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة، وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفة جماعة من الأئمة، وهجروها ونفروا منها، وأُحرقت كتبه في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقاداً واستفادة، وأخذاً ومؤاخذة، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجاً في الرصف بالخرز المهين، فتارة يطربون، وتارة يعجبون، ومن تفرده يهزءون.

وفي الجملة فالكمال عزيز، ويحسن النظم والنثر.

وفيه دين وخير؛ لأنا رأينا شيخاً أمسك ابن حزم وقال فيه كلاماً لا يجرؤ أن يقوله في البابا.

قال: وفيه دين وخير، ومقاصد جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكباً على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار.

الإمام ابن حزم إذا قرأت مصنفاته وكانت لك معه معاناة وقراءة وطول بحث في كتبه لأقسمت غير حانث أنه ما صنّف كتبه إلا لأجل إثبات أنه ما من مسألة في دين الله عز وجل إلى وعليها دليل، وهذا شرف يكفيه، أنه يدلك على أنه ما من مسألة في عقيدتك ولا مسلكك ولا أخلاقك ولا زهدك ولا ورعك ولا فقهك إلا وعليها دليل من كلام الله عز وجل، أو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو من كلام الصحابة المجمع عليهم.