للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موقف كعب بن مالك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عودته إلى المدينة]

قال: [(وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين)].

وهذا يدل على استحباب أن يصلي القادم من سفر طويل ركعتين في المسجد القريب من بيته، ويرسل إلى أهله أنه قد قدم ودخل المسجد؛ حتى تمشط الشعثة، وتستحد المغيبة، أي: تنظف نفسها، وتتهيأ للقاء زوجها.

قال: [(ثم جلس للناس)].

أي: بعد أن صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين في المسجد؛ جلس للناس، وهذه سنة سلفية عمل بها سلف هذه الأمة، فالشخص إذا كان من أصحاب الوجاهة والمنزلة، وممن يشار إليه بالبنان في مصالح الناس، أو تعليمهم أو غير ذلك؛ فإنه يستحب له أن يتخذ مكاناً هيناً سهلاً يمكن الوصول إليه بغير مشقة ولا عنت، ويظهر للناس حتى يقضي للناس حاجاتهم.

قال: [(ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون -أي: الذين تخلفوا عن القتال- فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له -ولم يطلب منهم قسماً- وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً, فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم)].

لأن أحكام الشريعة مناطها ما كان أمراً ظاهراً، وأما الباطن فإنه الإيمان الذي لا يطلع عليه إلا الله عز وجل؛ ولذلك لما حلفوا قبل منهم النبي عليه الصلاة والسلام، بل وبايعهم، واستغفر لهم، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم أن منهم منافقين، وأن منهم أصحاب أعذار حقاً، ولكنه استغفر للجميع، وقبل منهم للحلف الذي حلفوه، والمعذرة التي قدموها بين يديه عليه الصلاة والسلام، وهذا أمر مسنون أن يقبل الإمام قول الحالف وإن كاذباً، لكن ما عند الله من العقوبة أشد وأبقى مما عند هذا القاضي، أو الأمير، أو السلطان.

قال: [(ووكل سرائرهم إلى الله تعالى)].

أي: لما استغفر لهم قال لهم: إذا كنتم على غير ما حلفتم فإن الله تعالى يتولى أمركم، وهذا تهديد رهيب جداً، فالتخلص من ذلك في الدنيا أحسن.

قال: [(حتى جئت، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب)].

فهنا كان مغضباً، مع أن الرواية لم تذكر أنه غضب ممن حلفوا له، فأحياناً يغضب الإنسان غضباً شديداً على أقرب الناس إليه، وأحب الناس إلى قلبه؛ وذلك لأن هذا التصرف الخاطئ لا ينتظر منه، وإنما ينتظر من غيره، فكون النقيصة والعيب يأتيان من الآخرين هذا أمر مقبول، وأما منك وأنت أقرب الناس إلي، وأفهم الناس لي ولأخلاقي؛ فحين تقول: كذا وكذا، أو تفعل كذا وكذا، فوالله إن غضبي منك أعظم بكثير من غضبي على الآخرين، مع أن الآخرين قد قالوا شيئاً هو أعظم من قولك، وأنكر، وأقبح، لكن غضبي عليك أعظم؛ لأنك المظنون بك أن تكون في موطن الدفاع لا في موطن التهمة؛ ولذلك فالإنسان يتعامل مع الآخرين معاملة فيها رفق ولين، ويتعامل مع زوجته، وأبنائه، وأقرب المقربين إليه بهذه الطريقة؛ لأنهم أحب إليه من غيرهم، وفعل غيرهم لا يضره ولا يهمه، بخلاف أفعال المقربين فإنها تهمة، فلو أن امرأة أخطأت خطأً ما فربما يمر الإنسان عليها بغير أن ينكر عليها، لكن لو أن امرأته أخطأت لعاقبها ولو بالضرب؛ لأنه يثيره أن يأتي هذا الانحراف من امرأته.

قال: [(تبسم تبسم المغضب, ثم قال: تعال)].

تعال: كلمة فيها رفق ولين.

قال: [(وجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟)].

لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه مباشرة، بل سأله عن سبب تخلفه، ولم يقل له: والله أنت منافق، وأنا أعلم أن عندك فرسين، وهذا يعلمك أن تكون مع المخطئ حتى تتيقن أنه قد أخطأ بغير عذر.

قال: [فقال لي: (ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك)].

أي: ما الذي حملك على أن تتخلف عن الغزوة؟ ألم تكن يا كعب! قد ابتعت -أي: اشتريت- ظهرك، هذا إن لم يكن عندك فرس تركب عليه.

قال: [(فقلت: يا رسول الله! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر)].

هذا الأمر متعلق بالوحي، فغيرك لا يوحى إليه، وأما أنت فيوحى إليك، ولو أن هذا المجلس بين يدي غيرك لكذبت عليه وخرجت منها، وضمنت النجاة.

قال: [(ولقد أعطيت جدلاً)].

يعني: رجل صاحب لسان يحسن أن يتكلم وليس عيياً، بل يفصح عما في نفسه بأحسن عبارة وأقواها، وأكثرها بياناً وفصاحة.

قال: [(ولكني والله لقد علمت -أي: أنا أعلم يقيناً- لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي)].

أي: لو كذبت عليك فسينزل الوحي بكشف كذبي عليك، فيغضب الله ورسوله علي.

قال: [(ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه -يعني: تغضب مني الآن- إني لأرجو عقبى الله)].

يعني: لن أقول إلا الصدق، وإن كان الصدق سيغضبك علي، فإنني بصدقي أرجو العاقبة الحسنة من الله عز وجل، وهذا من حسن الاعتذار والتوبة المهذبة.

قال: [(والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك)].

أي: أنا تخلفت عنك بغير عذر، وإني ل