للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العلاقة بين الإسلام والإيمان]

قال: (ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام -أي: أن الإيمان والإسلام بمعنى واحد، فهو يقول: اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام- في هذا الحديث وسائر الطاعات؛ لكونها ثمرات للتصديق).

فمثلاً لا يمكن لرجل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أن ينكر الصلاة؛ لأن الأعمال الظاهرة إنما مبعثها الإيمان بالله عز وجل، وانقيادك في الظاهر يدل على حسن باطنك مع الله عز وجل.

فالعلاقة وثيقة جداً بين مسمى الإيمان والإسلام، الذي هو عمل الباطن وعمل الظاهر، وأنت لن يبدو عليك ظاهر الإسلام إلا إذا كان هذا منبثقاً عن حسن اعتقادك في الله، وحسن ما تبطن تجاه الله عز وجل من إقرارك وعقد قلبك وتصديقك بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وغير ذلك من فرائض الإيمان، وأنت لا تؤمن بهذا إلا إذا دفعك إلى حسن العمل في الظاهر، فالعلاقة وثيقة جداً بين الإيمان وبين الإسلام.

قال: (لكونها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ومقويات ومتممات وحافظات له، ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس).

فلما أتى وفد عبد القيس إلى النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: (يا رسول الله! إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نأتيك إلا في شهر الله الحرام، فمرنا بأمر نعمل به ونلزم به من بعدنا أو من خلفنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع) والحديث سيأتي في صحيح مسلم، وهو عند البخاري أيضاً قال: (آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الإيمان أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، وتحجوا البيت).

فهنا عرف الإيمان بالإسلام؛ لأنه لم يتكلم عن الإسلام وإنما تكلم عن الإيمان فقط، فعرف الإيمان بشعائر الإسلام، ولو أنهم سألوه عن الإسلام أو أمرهم بالإسلام لعرفهم على مسمى الإيمان والإسلام معاً، ولا يفهم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن يخبرهم بشعائر الإسلام دون شعائر الإيمان ومراتبه، وإنما إذا ذكر الإسلام وحده شمل معه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده شمل معه الإسلام، وإذا ذكرا معاً كان لكل واحد منهما مدلوله، كما هو الحال والشأن في الحديث الذي بين أيدينا حديث عمر بن الخطاب.

قال: (كما ورد في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين والصلاة والزكاة وصوم رمضان وإعطاء الخمس من المغنم، ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو بدل فريضة) -فلا نثبت له الإيمان المطلق، وإنما نثبت له مطلق الإيمان، وهو أصل الإيمان- لأن اسم الشيء مطلقاً يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)).

وكلمة حين أي: وقت ارتكاب المعصية، فدل ذلك على أن الإيمان يثبت له قبل ذلك وبعد ذلك، وأما وقت ارتكاب المعصية فلا يثبت له مطلق الإيمان، أي: لا يثبت له كمال الإيمان وتمامه، وإنما يثبت له أصل الإيمان.

قال: واسم الإسلام يتناول أيضاً ما هو أصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، ويتناول أصل الطاعات، فإن ذلك كله استسلام لله عز وجل.

قال: فخرج مما ذكرناه وحققنا: أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان).

بمعنى: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، أي: إذا ذكر كل واحد منهما على حدة فإنما يشمل الآخر، وإذا ذكرا معاً كان لكل منهما مدلوله.

قال: (وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً.

قال: وهذا تحقيق وافر بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام، التي طالما غلط فيها الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم.

هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو بن الصلاح عليه رحمة الله تبارك وتعالى).

وإذا سمعت في شرح صحيح مسلم قال أبو عمرو بن الصلاح أو قال القاضي عياض فانتبه جيداً، وخاصة لكلام القاضي عياض في غير كتاب الإيمان؛ لأن كلامه كالمسمار في الصاج، فهو كلام متين في غاية المتانة، وأبو عمرو بن الصلاح من أعاظم وفحول المحققين، وكان أستاذ التأويل والجمع بين الروايات والأقوال، وعندما يتكلم النووي عن مسألة ويذكر فيها عشرة أقوال فإنك تتحير أمام هذه الأقوال أيها الراجح وأيها المرجوح، فإذا قال لك: وقال أبو عمرو بن الصلاح فاعلم أنك قد أصبحت في بر الأمان مباشرة.

فـ أبو عمرو بن الصلاح لا يستهان به، ولا بأقواله قط، وكذلك القاضي عياض في غير التأويل، والإمام النووي كان يعتمد على القاضي عياض، وكان عنده أشعرية، عليه رحمة الله تبارك وتعالى.

قال: (فإذا تقرر ما ذكرناه