[بيان فضل المجاهد الذي اغبرت قدماه في سبيل الله]
عن معاذ بن جبل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما تغبرت قدما عبد قط ولا وجهه في شيء أفضل عند الله بعد الصلاة المفروضة من الجهاد في سبيل الله عز وجل).
إذاً: فأعظم مشوار تذهب إليه وتغبر فيه قدماك بعد إدراك الصلاة مع الإمام في جماعة هو الجهاد في سبيل الله عز وجل.
وفي رواية: (والذي نفسي بيده ما شحب وجه ولا اغبرت قدم في عمل تبتغي فيه درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار).
وهذه حرمة عظيمة للمجاهد.
وعن أبي هريرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف امرئ مؤمن.
أو قال: مسلم).
لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم، فإما هذا وإما ذاك، فالذي اغبرت قدماه في سبيل الله أو وجهه في سبيل الله حرم الله بدنه على النار.
وعن عائشة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من خرج في سبيل الله فدخل الرهج -الغبار- في جوفه حرم الله جلده على النار).
وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن مكاتباً دخل عليها ببقية مكاتبته -أي: أنه دخل عليها ببعض المال ليدفع ما تبقى عليه في المكاتبة- فقالت: إنك غير داخل علي بعد مكاتبتك هذه؛ لأنك ستكون حراً فعليك بالجهاد في سبيل الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما خالط قلب امرئ رهج في سبيل الله إلا حرمه الله على النار).
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجب ربنا من رجلين) والله تعالى يعجب كيف شاء ليس كعجب الخلق.
قال: (عجب ربنا من رجلين: رجل سار من فراشه ولحافه -أي: انسل من لحافه وفراشه- من بين أهله وحبه أو حشمه إلى صلاته فيقول الله عز وجل لملائكته: انظروا إلى عبدي.
سار من بين لحافه من بين أهله وحبه أو حشمه إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله ففر أصحابه، فعلم ما عليه في الفرار -أي: من الوزر- وما له في الرجوع إلى العدو، فرجع حتى أهريق دمه).
عجب ربنا تبارك وتعالى من رجل يترك فراشه ويترك زوجه وعروسه ويقوم فينتصب لله عز وجل قائماً في الليل، ورجل فر مع أصحابه من الجهاد ولكنه راجع نفسه وعلم أن هذا فرار من الزحف، وأنه من أكبر الكبائر فاتقى الله ورجع ليقاتل العدو حتى أريق دمه.
قال: (قال الله تعالى لملائكته: انظروا إلى عبدي.
رجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي).
وعن عتبة بن عبد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (القتلى في سبيل الله ثلاثة: مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا) قرف أي: اكتسب، رجل مؤمن لكنه عاص بذنوبه.
قال: (رجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل) هو مؤمن صاحب ذنوب ومعاصي وخطايا، لكنه إذا لقي العدو ثبت وقاتل العدو حتى قتل.
قال: (فتمصمصه) أي: تطهره.
إذاً: ليس القتال في سبيل الله هلكة، بل هو مكسب عظيم جداً، فالرجل صاحب الذنوب تمحو الحروب والجهاد خطاياه وذنوبه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتمصمصه فمحت ذنوبه وخطاياه.
إن السيف محاء للخطايا) ولم يقل: إن السيف يمحو الخطايا، وإنما قال: (محاء) صيغة مبالغة من المحو، كأن المجاهد لا يبقى عليه في الجهاد والقتل في سبيل الله ذنب قط.
(والثاني: مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذاك في خيمة من خيام الله في الجنة لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة).
إذاً: اثنان: مؤمن مذنب وعاص وصاحب خطايا، والسيف محاء لذلك كله، ومؤمن بلا ذنب أو بلا كبيرة، فهذا في الجنة يتلو منزلة الأنبياء والمرسلين مباشرة، ولا تحجبه عنهم إلا درجة النبوة.
قال: (ومنافق جاهد بنفسه وماله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذاك في النار، إن السيف لا يمحو النفاق).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فله الجنة) وفي رواية: (حرمه الله على النار).
وفي رواية: (حرم الله وجهه على النار).
وفواق الناقة هو: المدة الزمنية بين الحلبتين.
وهذا على عادة الناس في الأماكن المختلفة، فالعرب يحلبون نوقهم في كل يوم، أما الفلاحون فإنهم يحلبون نوقهم في كل يوم مرتين: في الصباح مرة وفي المساء مرة، فأياً كان وعلى أقصى تقدير لو أن الواحد قاتل من أول النهار إلى آخره، أو إلى مطلع النهار الثاني في سبيل الله عز وجل حرم الله وجهه على النار.
وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال