الركن الأعظم في هذا الصيام: النية؛ لأن النية هي التي تحدد عبادة العازم، سواء كانت هذه العبادة فرضاً أم نفلاً، سواء كانت عادة أو عبادة، ولذلك لو امتنع رجل عن الطعام والشراب لا بنية العبادة وإنما بنية الانتحار هل يقبل منه هذا الصوم؟ هو قد امتنع وأمسك عن الطعام والشراب، ولكنه لم يتقرب بهذا الامتناع وهذا الإمساك وهذا الصيام إلى الله عز وجل، وإنما أراد أن ينتحر وأن يموت من شدة الجوع، وأمسك عن الطعام والشراب حتى هلك، فهل يعد هذا عند الله أو عند الناس صائماً؟ لا؛ لأنه لم ينو بهذا الإمساك وجه الله عز وجل، مثل من أراد أن يعمل إضراباً، فقال: أنا مضرب عن الطعام والشراب إلى أن تعملوا لي كيت وكيت وكيت، فقيل له: لن نفعل، واستمر هو في صومه وفي إضرابه عن الطعام والشراب حتى مات.
لغة يقال له: ممسك؛ لأن الإمساك هو: الامتناع، وقد امتنع بالفعل، يعني: صام، لكن لا نقول أبداً: إن هذا الرجل الذي امتنع عن الطعام والشراب مضرب صائم، لا يمكن أن يصح هذا في الاصطلاح الشرعي وإن كان صحيحاً من جهة اللغة؛ لأن الاصطلاح الشرعي تلزم فيه النية، وهي نية القربة ونية العبادة، وهذا لم يفعل ذلك بنية القربة ولا العبادة، وإنما فعلها لأجل مصلحته الشخصية أو تحقيق غرضه الذاتي.
النية في صوم الفرض لازمة من الليل، بخلاف النية في صوم النفل؛ ولذلك أجمع العلماء على وجوب إرفاق النية في الفرض، ولا فرض غير شهر رمضان، فتكون من أول شهر رمضان.
واختلفوا في وجوب تجدد هذه النية في كل ليلة من ليالي الشهر، فمنهم من قال: إنما يكفي نية واحدة للشهر كله، ومنهم من قال: لا بد من تجديد النية في كل ليلة من طلوع الفجر لليوم الذي بعد هذه الليلة، والذي يترجح لدي أن النية الواحدة في أول الشهر كافية في إتمام هذا الشهر بهذه النية، إلا أن يحدث حدث، فالنية تكفيك في أول الشهر، ما إن تسمع أن رمضان سيدخل غداً تفرح وتسعد وتنعقد نيتك على صيام هذا الشهر من أوله إلى آخره، وهذه النية كافية ولا يلزم تجددها في كل ليلة، ولكن قد يطرأ على هذا الناوي وهذا الصائم ما يعكر عليه هذه النية، كأن يطرأ عليه سفر، والسنة في السفر الإفطار، ومن كان يقدر أن يصوم في سفره فهو مخير بين الإفطار والصوم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم سافروا وغزوا مع النبي عليه الصلاة والسلام، فمنهم من صام ومنهم من أفطر، لا يعيب أحدهما على الآخر.
أما قوله عليه الصلاة والسلام:(ليس من البر الصوم في السفر) فهذا لغير القادر، لما وجد النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه يصبون الماء على رجل قال:(ما باله؟ قالوا: يا رسول الله! إنه صائم، فقال: ليس من البر الصيام في السفر)؛ لأنه غير قادر على الصيام فكاد أن يهلك، ولكنه أصر على أن يصوم مع عدم قدرته، بل النبي عليه الصلاة والسلام نفسه صام هو وعبد الله بن رواحة في أثناء السفر.
فأقول: إن السفر علة قاطعة للنية، والصيام ليس مفروضاً ولا واجباً إلا على المقيم، فإذا سافر المرء جاز له أن يفطر، فإذا أفطر انقطعت نيته التي عقدها في أول الشهر، فإذا رفعت هذه العلة وهي علة السفر يلزمه أن يجدد النية مرة أخرى، من أجل ذلك نقول: إن النية تلزمك مرة واحدة إذا كانت الظروف مواتية ومستقرة من أول الشهر إلى آخره دون انقطاع، لكن إذا انقطعت هذه النية بأحد الأعذار الشرعية كالسفر وكالمرض، كشخص في أثناء الشهر مرض مرضاً عجز معه عن مواصلة الصوم فأفطر، وفطره قربة لله عز وجل، فنيته قد انقطعت، فإذا شفي من علته وزال عذر المرض وأراد أن يصوم مرة أخرى فإنه يلزمه تجديد النية مرة أخرى.
أما النافلة من الصيام فإن النية لا تلزم الصائم من الليل، وإنما بإمكانه أن يعقد النية ولو في أثناء النهار قبل الزوال، والدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل بيته وقدم إليه الطعام أكل، وإذا اعتذر إليه بأنه لا يوجد طعام قال: إني صائم، وسيأتي هذا معنا بإذن الله تعالى.