[العلة من النهي عن إطلاق لفظة العبد والأمة والسيد]
قال العلماء: مقصود الأحاديث -أي: مقصود أحاديث الباب التي ذكرناها- أمران: أحدهما: نهي المملوك أن يقول لسيده (ربي)؛ لأن الربوبية لا تكون إلا لله تعالى؛ لأن الرب هو المالك أو القائم بالشيء، ولا تكون حقيقة هذا إلا لله تعالى، ولذلك سمي رباً، وسمي قيوماً؛ لأنه هو القائم على شئون خلقه.
فإن قيل: فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة: (أن تلد الأمة ربتها أو ربها)، كما قلنا: إن كلمة (ربتها) مضافة إلى الهاء، وكذلك مجردة عن الألف واللام والنهي عن (الرب).
الجواب
من وجهين: أحدهما: أن هذا الحديث لبيان الجواز.
يعني: أن لفظ الرب ليس محرماً، ولكن استعماله وإشاعته فيه كراهة، ويبقى الأصل الجواز، ولذلك جاء في بعض الأحاديث النهي، وجاء في بعضها الإباحة، والأحاديث والآيات التي ورد فيها ذكر الرب جاءت لبيان الجواز، وأن النهي الذي ورد في بعض النصوص للأدب وكراهة التنزيه لا للتحريم.
يعني: تأدباً.
ونضرب لذلك بلفظة (الهن)، فالهن من أسماء الدبر، وهو من الأسماء الستة، فكلمة (هن) ألطف من كلمة (دبر)، وكذلك (السه) اسم من أسماء الدبر، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (العين وكاء السه، فإذا نام العبد فليتوضأ).
أي: أن العين حارسة على نقض الوضوء، كلما كان الرجل مستيقظاً فهو يعرف تماماً إذا كان متوضئاً أو فاقداً له، لكنه إذا نام فإنه لا يعرف ذلك.
ولو قلت لأحد الطلبة في السنوات الأولى: جاء أخوك، ورأيت أخاك، ومررت بأخيك، فإنه سيفهم هذه العبارات.
أما لو قلت: (جاء هنوك) أو (رأيت هناك)، أو (مررت بهنيك)، فإن الطلبة سيسألون عن معنى ذلك، ولهذا لم يفرضوا على الطلبة في هذه المستويات هذا الاسم السادس من الأسماء الستة، ولم يقرر إلا في الجامعات.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (أن تلد الأمة ربتها أو ربها) فيه جواز إطلاق هذا اللفظ، والأولى غيره، كما يجوز إطلاق لفظ الدبر، لكن أولى منه (الاست) و (السه) و (الهن)؛ لأن هذه ألفاظ لها وقع أطيب من وقع الدبر على المسامع.
الجواب الثاني: أن المراد: النهي عن الإكثار من استعمال هذه اللفظة واتخاذها عادة شائعة ولم ينه عن إطلاقها في نادر الأحوال، واختار القاضي هذا الجواب.
إذاً: النهي عن إطلاق هذه الكلمة وإشاعتها حتى تكون عادة، أما لو استعملت في أحوال نادرة فلا بأس بذلك.
ولا نهي في قول المملوك: (سيدي)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليقل: سيدي)؛ لأن لفظة السيد غير مختصة بالله تعالى اختصاص الرب، فإن كلمة الرب ألصق بالله عز وجل من كلمة (سيد)، وقد ورد في النص أن الله هو السيد، كما في حديث: (لا تقولوا للمنافق سيد؛ فإن الله هو السيد) وهو حديث صحيح، لكن هذا النص ليس مشهوراًً كشهرة النهي عن إطلاق لفظ الرب، أو ليس من أسماء الله عز وجل أنه السيد، بل ولا من صفاته، وإنما هو من باب صفات المعاني الواسعة، مثل الستار والمنعم وغير ذلك، فكلها صفات لله عز وجل من جهة المعنى لا من جهة النص، فالمنعم ليس من أسماء الله عز وجل، وليس من صفات الله عز وجل المنصوصة على أنها من صفاته سبحانه، وإنما المنعم صفة معنى لله عز وجل وصفات المعاني بابها واسع؛ لأن المنعم الحقيقي على الخلق هو الله عز وجل ولا خلاف في ذلك.
قال: [ولا نهي في قول المملوك سيدي لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليقل: سيدي)؛ لأن لفظة السيد غير مختصة بالله تعالى اختصاص الرب، ولا مستعملة فيه كاستعمالها، فلو قلت: رب، فإن ذهن المستمع ينصرف لله عز وجل، بخلاف لفظة: سيد، فلا ينصرف ذهنه لله عز وجل.
إذاً: استعمال كلمة رب في جنب الله عز وجل أكثر شيوعاً من استعمال كلمة سيد، ولذلك يجوز للعبد أن يقول: سيدي، والدليل على ذلك الرجل المجوسي الذي أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقد أطلق شاربه حتى دخل في فمه وحلق لحيته، وكان مبعوثاً من أحد أمراء كسرى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى هيئته: (من أمرك بهذا؟) أي: من الذي قال لك أن تطيل شاربك وتحلق لحيتك؟ (قال: أمرني ربي) يقصد سيده: (فقال عليه الصلاة والسلام: وأنا أمرني ربي أن أطلق لحيتي، وأن أحف شاربي).
إذاً: شتان ما بين رب هذا المبعوث ورب محمد عليه الصلاة والسلام! قال: [حتى نقل القاضي عن مالك أنه كره الدعاء بسيدي، ولم يأت تسمية الله تعالى بالسيد في القرآن ولا في حديث متواتر، بل ورد في حديث آحاد: (لا تقولوا للمنافق سيد فإن الله هو السيد).
والنبي صلى الله عليه وسلم أجاز إطلاق لفظ سيد على المخلوقين، فقال: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله تعالى به بين فئتين عظيمتين).
وقال عليه الصلاة والسلام للأنصار: (قوموا إلى سيدكم) يعني: سعد بن معاذ.
وفي الحديث الآخر: (اسمعوا ما يقول سيدكم) يعني: سعد بن عبادة