[باب غزوة الأحزاب]
الباب السادس والثلاثون: (باب غزوة الأحزاب).
غزوة الأحزاب في مذهب جماهير العلماء كانت في العام الخامس من الهجرة.
وقيل: بل كانت في العام الرابع.
قال ذلك مالك ووافقه على ذلك الإمام البخاري، فأورد في صحيحه في كتاب السير والمغازي: أن غزوة الأحزاب كانت في العام الرابع من الهجرة.
وهذا كلام يخالف كلام جماهير العلماء، بل قد انفرد به ثلاثة فقط من أئمة العلم، أما جماهير العلماء فاتفقت كلمتهم على أن غزوة الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة، وهي المعروفة بغزوة الخندق.
وفي المدينة جبل يسمى جبل سَلع أو سِلع، وأنتم تعلمون أن اليهود كان يسكنون المدينة، وهم: يهود بني النضير، ويهود بني قينقاع، ويهود بني قريظة، وكان بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام عهد وميثاق، فلما خفر بنو النضير عهدهم وميثاقهم أمهلهم النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام حتى يخرجوا من المدينة، ولا يخرجون إلا بما تحمله إبلهم وأما فوق ذلك فلا، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة تماماً، ونزلوا في جهة الشام عند خيبر وما بعدها من البلدان، وأما بنو قريظة فالتزموا بعهدهم مع النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن بني النضير لما أُجلوا عن المدينة ذهبوا إلى قريش في مكة، وألبوا المشركين على النبي عليه الصلاة والسلام، وأعطوا العهود والمواثيق لقريش أنهم سيجتمعون معهم لقتال محمد عليه الصلاة والسلام، فلما أقنعوا قريشاً وصناديد الشرك في مكة بقتال محمد عليه الصلاة والسلام اتفقوا على ذلك، فانطلق يهود بني النضير إلى غطفان وأقنعوهم بأن الحرب قادمة، وأن محمداً وأصحابه على وشك الانتهاء والإزالة من على وجه الأرض.
والشاهد من ذلك: أن غطفان اقتنعت بهذه الخطة، فانضم صوت غطفان إلى قريش وبني النضير، ثم انطلق اليهود إلى بني فزارة ثم بني مرة؛ فأقنعوهم بالخطة وتحزب الأحزاب لقتال النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يبق أمام بني النضير إلا إقناع بني قريظة عن طريق سيدهم كعب بن أسد القرظي فلا زال يهود بني النضير بـ كعب بن أسد حتى أقنعوه بالاشتراك في الحرب على أن يكون يهود بني النضير والأحزاب يقاتلون من خارج المدينة، ويقاتل بنو قريظة في الجبهة الداخلية، فأرسل النبي عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ ليأتيه بخبر هؤلاء.
وفي هذا: جواز استخدام الجواسيس والعيون لمعرفة أخبار العدو، وكان الأحزاب عشرة آلاف، والمسلمون ثلاثة آلاف، فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم منزله قال له سلمان الفارسي: (يا رسول الله! أهذا منزل أنزلكه الله عز وجل، أم هو الرأي والمشورة؟ قال: بل هو الرأي والمشورة.
قال: ليس هذا بمنزل.
اذهب بنا إلى مكان كذا، نحفر لهم خندقاً ونجعل الجبل -أي: جبل سلع- في ظهرنا) فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم الفكرة وكانت جديدة على العرب؛ لأن أمر حفر الخنادق ليس من شأن العرب، بل هو من شأن العجم، وسلمان فارسي من بلاد فارس، فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم الفكرة ونزل على مشورة سلمان.
وفي هذا: استخدام الشورى، وأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها.
اشترك النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في حفر الخندق اشتراكاً فعلياً، حتى غطى التراب صدره وبطنه وشعره، وكان النبي عليه الصلاة والسلام كثير الشعر، وحينما ضرب أحد أصحابه بفأسه حجراً استعصى عليه الحجر، ولم يجد من يشكو له صعوبة الحجر إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا آتيك، وأخذ فأسه وضرب الحجر ضربة ثم نظر فيه وقال: (إني لأرى سواري كسرى وقيصر).
في هذا الموقف العصيب يبشرهم النبي عليه الصلاة والسلام بأن ملك كسرى وقيصر سيئول إلى المسلمين.
يقول جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: (لقد نزل بنا من الجوع ما الله به عليم، وإني لأنظر إلى بطن النبي صلى الله عليه وسلم قد غطاها التراب، قد التصق لحمه بعظمه من شدة الجوع حتى إنه ربط الحجر على بطنه، فقلت: يا رسول الله! ائذن لي.
فأذن لي فذهبت إلى امرأتي وقلت لها: هل عندكم من طعام؟ قالت: عندنا عجين لم نعجنه بعد، وعندنا عنز قائمة.
فقال: اذبحي العنز واعجني العجين، ثم لحقت بالنبي عليه الصلاة والسلام فقال: أين كنت؟ قلت: آمر امرأتي أن تذبح العنز وأن تعجن العجين.
قال: أعجنته؟ قلت: بعد يا رسول الله! -أي: لم تفعل- قال: اذهب إليها وائتني بعجينها، فذهبت فأتيت بالعجين، فبرك عليه النبي صلى الله عليه وسلم فلا زالت تخبز منه حتى أكل منه الجيش كله، وأما اللحم فوضع في القدر حتى طهي فبرك عليه النبي عليه الصلاة والسلام حتى أكل منه الناس جميعاً وبقي اللحم كما هو).
وهذه معجزة ظاهرة للنبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا ثلاثة آلاف رجل.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يحفر مع أصحابه، وأصحابه يقولون ويرتجزون: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما