[شرح حديث أبي هريرة:(كل عمل ابن آدم له إلا الصيام)]
حدثني حرملة بن يحيى التجيبي المصري - وهو من دمياط - قال: أخبرنا ابن وهب -وهو من أهل القاهرة - أخبرني يونس - وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام هو لي وأنا أجزي به)].
نقول: هل الصلاة والزكاة والحج كل هذه ليست لله؟ بلى، إذاً: فلم خص الله عز وجل عبادة الصيام بنسبتها إليه دون غيرها من سائر العبادات؟ لأن الصيام يحتاج إلى إخلاص أكثر من أي عبادة أخرى، ولذلك الرياء في الصيام لا يفعله إلا المجان والفساق، أما المسلم المتخلق بأخلاق الإسلام، فإنه لا يمكن أن يصدر منه رياء في الصيام.
فالصيام يقل فيه الرياء ويزداد فيه الإخلاص، ولذلك نسبه الله عز وجل إليه نسبة تشريف.
وقيل: نسبة الصيام إلى الله عز وجل نسبة مجاز واستعارة.
فقوله:(هو لي وأنا أجزي به) يعني: لما كان الصيام بهذه المثابة من الإخلاص فإن الله تعالى خزن جزاءه وأخفاه حتى عن الملائكة المقربين، حتى عن الكتبة الذين يكتبون الثواب والعقاب، خزنه وأخفاه عنهم وتولى هو سبحانه بنفسه جزاء الصائمين.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [(فوالذي نفس محمد بيده! لخلفة -وفي رواية: لخلوف- فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)] والخلوف: هي الرائحة الكريهة التي تخرج من فم الإنسان بسبب الصيام خاصة بعد العصر، والحقيقة أن هذه الرائحة لا تخرج من الفم، وإنما تخرج من المعدة؛ لخلوها من الطعام، فمهما حاولت أن تزيل هذه الرائحة من فمك لا تزول؛ لأن منبعها المعدة والبطن، وليست هي صادرة عن الفم.
فهذه الرائحة عند الله عز وجل يوم القيامة أطيب من ريح المسك، ولما كان المسك هو أفضل الطيب وهو أحب الطيب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ضرب به المثل، وغالب طيب العرب المسك، ومادته هي أحسن المواد، وهي تفوق جميع مواد العطور، فلما كان المسك بهذه المثابة ضرب النبي عليه الصلاة والسلام به المثل الذي يعرفه العرب ويستطيبونه.
إذاً: هذه الرائحة التي تنبعث من فم الصائم وتتأففون منها هي عند الله يوم القيامة أطيب من ريح المسك، جزاءً وفاقاً؛ لما عملوه في الدنيا، لما صبروا وامتنعوا طاعة لله عز وجل عن الطعام والشراب والشهوة أنتج هذا الامتناع وهذا الحبس هذه الرائحة، فلما تأفف منه الناس في الدنيا أقبل أهل المحشر عليه في الآخرة يشمون رائحته الطيبة الزكية التي تخرج منه، جزاء طاعته في الدنيا.