اختلاف العلماء في كون الخلاف داخلاً تحت تعدد الحق
اختلف العلماء في الخلاف: هل الخلاف حق وباطل، أم أن الحق متعدد؟ والمسألة محل نزاع مبحوث في كتب أدب العلم، وقد استوعبه بحثاً الحافظ الكبير ابن عبد البر في كتاب (جامع بيان العلم وفضله)، وذكر هذين الرأيين وأتى بأدلة لكل رأي، ورجّح أن الخلاف إذا كان مبناه على الدليل فهو راجح ومرجوح، وإذا كان مبناه على غير الدليل فهو خطأ وصواب، أو حق وباطل.
أي أننا حينما نختلف في مسألة شرعية، فأنت تأتي عليها بأدلة من الكتاب والسنة، وأنا لا آتي عليها إلا بالرأي والهوى والمزاج والعقل، فالحق مع الكتاب والسنة، وما دام الحق معك فالباطل معي.
لكن هذا الخلاف الذي وقع بين الصحابة: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فيه رأيان: الرأي الأول: من قال: النبي عليه الصلاة والسلام أراد بهذا الأمر البشارة، فاجتهدوا وأولوا.
قالوا: فنحن مستقرٌ عندنا أنه لا يحل لواحد من المسلمين أن يترك صلاة حتى يخرج وقتها، فمعنى كلام النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) التبشير بأن النصر سيكون قبل دخول المغرب، وأنكم يا معشر الصحابة! ستصلون في بني قريظة، فهو لم يرد ظاهر الأمر.
إذاً هؤلاء اجتهدوا اجتهاداً يسمح به النص، وعندهم فيه حق.
الرأي الثاني: الذين اجتهدوا كذلك في النص، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك ولا يأمر عن هوى، إنما يأمر بوحي السماء، وقد أمرنا ألا نصلي العصر إلا في بني قريظة، ولا نصليه إلا في بني قريظة حتى لو خرج الوقت، فالذي يتحمل هذه المسئولية هو النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي أمر بذلك: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤] منه سبحانه وتعالى.
فحينئذ أخذ بعض أصحابه بظاهر النص والتزموا ترك الصلاة حتى فتحت على أيديهم ديار بني قريظة.
فلما اجتهدوا في هذا وذاك علم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ما فعلوا ذلك عن هوى ولا عن رأي غير معتبر، وإنما فعلوا ذلك عن اجتهاد، فأقر كل واحد على اجتهاده، وما عنّف واحداً من الفريقين، فلم يقل للذي صلى: لم صليت وقد أمرتك ألا تصلي إلا في بني قريظة؟ ولم يقل للذي أخر: لم أخّرت وأنت تعلم أن تأخير الصلاة عن وقتها حرام وإثم عظيم، ربما يؤدي إلى كفر صاحبه، والخروج به من الملة.
ولكنه لم يعنّف هذا ولا ذاك؛ لأنه علم أن هذه الأفعال ما صدرت إلا عن اجتهاد؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم -أي: المجتهد- فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد).
وفي هذا: جواز الاجتهاد لكن لمن ملك أداة الاجتهاد، ويخرج من ذلك الذي لا يملك أداة الاجتهاد.
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم (لكل مجتهد)؟ وأهل الاجتهاد هم أهل الحل والعقد في الأمة، والأثبات من أهل العلم، وأما اجتهاد من هم دون هؤلاء فغير معتبر.