للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحديث المعنعن بين البخاري ومسلم]

يقول: ثم عقد باباً خاصاً لإثبات صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن.

والحديث المعنعن هذا هو بيت القصيد بين الإمام البخاري والإمام مسلم، وهذا الباب أهم الأبواب في المقدمة على الإطلاق؛ لأنه محل خلاف عظيم بين السلف والخلف، فالإمام البخاري يقول كما قال شيخه علي بن المديني أيضاً: لا بد أن يثبت لدينا ولو مرة واحدة أن هذا الراوي التقى بشيخه الذي أخذ عنه العلم، فلا يكفي أن يقول: عن فلان، فالذي يثبت لدى البخاري أن هذا التلميذ التقى بذلك الشيخ، وأن يأتي هذا مسنداً، أي: يثبت بالدليل القطعي أن التلميذ التقى بشيخه، ولكن الإمام مسلماً يوافق البخاري في جزئية ويخالفه في أخرى.

يقول: هذا في حق المدلّس، إذا كان الراوي مدلساً لا بد أن يثبت لقاؤه بشيخه، بل لا بد أن يثبت لقاؤه به في كل حديث يرويه، فلو أن المدلّس قال: عن فلان عن فلان عن فلان، وعدد شيوخه نتوقف في قبول روايته إن كان من أهل الطبقة الثالثة، والمدلسون خمس طبقات، فإن كان من أهل الطبقة الثالثة توقفنا في قبول حديثه حتى يصرّح بالتحديث، كأن يقول: حدثنا فلان، أو أخبرنا فلان، أو أنبأنا فلان؛ لأن هذه الألفاظ والمصطلحات تعني: حصول التحديث والسماع، أما لو قال: عن فلان، فيُحمل على الانقطاع في أغلب أقوال أهل العلم، فهذه الجزئية وافق فيها الإمام مسلم الإمام البخاري، وخالفه في جزئية أخرى.

قال: لو أن الراوي ثقة لم يرم بالتدليس ولم يُتهم به، فما قيمة هذا الشرط وهو ثبوت اللقاء، فالإمام مسلم يقول: تكفي المعاصرة في إثبات اللقاء.

والمعاصرة: أن يعيش الشيخ والتلميذ في عصر واحد، وهذا كاف في إثبات اللقاء ما لم يكن التلميذ الراوي مدلساً، وهذا كلام مقبول ومقبول جداً الإمام البخاري يقول: وإن كان ثقة لم يرم بالتدليس لا بد من ثبوت اللقاء، فالخلاف بين البخاري ومسلم في هذه المسألة متعلق بمسألتين: اللقاء، والمعاصرة.

فالمعاصرة محل اتفاق بين البخاري ومسلم، إنما الإشكال كله في لزوم ثبوت اللقاء، فـ البخاري يشترط ذلك، وأما مسلم فإني أسمع من الناس من يقول: لا يشترط ذلك! والصحيح أنه يشترط ذلك، وكل ما هنالك أنه قال: إن المعاصرة كافية في إثبات اللقاء ما لم يكن الراوي مدلساً، فكثير من طلبة العلم يردد: الإمام البخاري يشترط ثبوت اللقاء ولا يشترطه مسلم! فقولك: ولا يشترطه مسلم هذا خطأ، والصواب: أن مسلماً يشترط، ولكنه يجعل المعاصرة كافية في إثبات اللقاء بشرط ألا يرمى الراوي بالتدليس، والإمام البخاري يقول: رُمي أو لم يرم لا بد من إثبات اللقاء.

فإن قيل: هل البخاري عليه رحمة يشترط ثبوت اللقاء كشرط خاص له في داخل الصحيح، أم أن هذا شرط في أصل الصحة؟

الجواب

جمهور أهل العلم يقولون: إن البخاري اشترط هذا الشرط في أصل صحة الحديث، سواء رواه في صحيحه أو في غير صحيحه، وربما نظر الناظر فوجد وترجّح لديه أن هذا الشرط إنما اشترطه البخاري في داخل صحيحه فقط؛ لأنك تجد الإمام الترمذي في جامعه يقول بعد أن يروي حديثاً: وسألت عنه محمداً فقال: صحيح، فإذا نظرت في هذا الحديث فإنك تجده خالياً من شرط البخاري وهو لزوم ثبوت اللقاء.

ثم إن الإمام البخاري نفسه يروي في خارج الصحيح من كتبه أحاديث كثيرة ليست على شرطه، قد أجمع أهل العلم على صحتها، فهذا أمر يدلك على أن شرط البخاري إنما كان في داخل صحيحه دون ما عداه، وهذه فائدة لطيفة ينبغي أن تحرص عليها.