[مذهب الشافعية في معنى حديث: (اليمين على نية المستحلف)]
قال النووي: (وهذا الحديث محمول على الحلف باستحلاف القاضي) يعني: هذا الحديث محمول على فض المنازعات والخصومات وغيرها، واستحلاف القاضي للخصوم أو للشهود على نية المستحلِف، أي: على نية القاضي الذي طلب منك اليمين أن تقسمه على إثبات شيء أو نفيه، وهذا محل إجماع، واختلف بعد ذلك إذا لم يكن المحلف هو القاضي، فمنهم من قال: لا يحنث ولا يأثم بذلك إذا ورى، ومنهم من قال: يأثم ويحنث، ولا تقبل منه التورية، لكن المسألة المجمع عليها أن القاضي إذا حلَّف متهماً أو خصماً أو شاهداً فلا تصح التورية من المستحلَف حينئذ.
ثم قال: (فإذا ادعى رجل على رجل حقاً، فحلفه القاضي فحلف، وورَّى فنوى غير ما نوى القاضي؛ انعقدت يمينه على ما نواه القاضي -لا على ما نواه المستحلِف- ولا تنفعه التورية، وهذا مجمع عليه، ودليله هذا الحديث والإجماع).
والتورية: هي أن توهم الذي أمامك إذا سألك سؤالاً أنك تجيب على عين السؤال، وإجابتك تصلح أن تكون لأكثر من سؤال.
مثال ذلك: إذا طرق عليك الباب أحد، فردت امرأتك من خلف الباب فسألها الطارق: فلان موجود، فقالت: ليس موجوداً هنا، وتشير إلى مكان بعينه تقصده، أي: خلف الباب، وأنت في غرفة من الغرف، فهي قد ورَّت في كلامها، واستخدمت المعاريض في كلامها، كما لقي بعض المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة، وهم لو عرفوه لقصدوا قتله، فلما لقوه هو ومن معه قالوا: (من أين القوم؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نحن من ماء)، يقصد: {وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:٣٠]، فهو لم يكذب، لكنه أراد شيئاً، والسائل أراد شيئاً آخر.
فهذه هي التورية أو المعاريض، ولها صور أخرى حتى لا يسميها أحد بالكذب، وكما قال السلف: (إن في المعاريض مندوحة عن الكذب).
فإذا طلب القاضي من إنسان أعمى أن يحلف اليمين: هل رأيت فلاناً يفعل كذا، فيقول الشاهد الأعمى: لا والله ما رأيته، مع أنه سمعه، فالقاضي من كثرة ما اعتاد أن يحلِّف اليمين على نحو معين، قال لهذا الشاهد الأعمى الذي جيء به ليشهد أنه سمع: هل رأيت فلاناً يقول كذا؟ فيقول: لا والله ما رأيته.
فيمضي القاضي شهادته على ما ورى به.
والأصل أن اليمين تنعقد على نية القاضي، أما يمين هذا المستحلَف فلا تصح منه؛ لأنه استخدم المعاريض.
وانعقاد الإجماع على أن اليمين على نية القاضي؛ لتعلق هذا اليمين بحقوق الآخرين.
ثم قال: (فأما إذا حلف بغير استحلاف القاضي وورَّى تنفعه التورية، ولا يحنث، سواء حلف ابتداء من غير تحليف، أو حلفه غير القاضي وغير نائبه في ذلك، ولا اعتبار بنية المستحلِف غير القاضي).
يعني: هم يفرقون بين حالتين: في حالة أن تذهب إلى المحكمة فيحلفك القاضي، فهذا فيه الإجماع على أن اليمين على نية المستحلِف لا على نية المستحلَف.
أما لو ذهبت أنت إلى المحكمة ولم يحلفك القاضي أو نائبه، وإنما أنت ابتدرته باليمين دون استحلاف منه، واستخدمت في يمينك تورية، وقصدت ما كان مطلوباً منك مستخدماً التورية، فتنفعك التورية، ولا تحنث في يمينك، سواء حلفت ابتداءً من غير تحليف، أو حلفك غير القاضي وغير نائبه، ولا اعتبار لنية المستحِلف من غير القاضي أو نائبه.
ثم قال: (وحاصله أن اليمين على نية الحالف في كل الأحوال، إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه فتكون على نية المستحلف وهو مراد الحديث) يعني: اليمين على نية الحالف في كل الأحوال إلا في حالة واحدة، وهي إذا حلفه القاضي.
ثم قال: (أما إذا حلف عند القاضي من غير استحلاف القاضي في دعوى؛ فالاعتبار بنية الحالف لا بنية المستحلِف، وسواء في هذا كله اليمين بالله تعالى أو بالطلاق والعتاق، إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق أو بالعتاق؛ تنفعه التورية) لأنه لا يجوز للقاضي أن يحلف أحداً إلا بما ينعقد به اليمين الشرعي، وهو بالله وأسمائه وصفاته.
فإذا قال: عبدي معتق إن كان كذا، أو إن لم يكن كذا، فلا يعتق العبد عند جماهير العلماء، وكذلك إذا قال: امرأتي طالق إن كان كذا، فلا تطلق امرأته عند جمع من العلماء.
قال: (وسواء في ذلك كله اليمين بالله تعالى، أو بالطلاق أو العتاق، إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق أو بالعتاق تنفعه التورية، ويكون الاعتبار بنية الحالف؛ لأن القاضي ليس له التحليف بالطلاق والعتاق، وإنما يستحلِف بالله تعالى).
يعني: إذا حلفك القاضي بالله؛ فلا يجوز لك أن توري، أما إذا حلفك بالطلاق فوريت في هذا فتنفعك التورية؛ لأنه لا يحل للقاضي أن يحلفك بالطلاق ولا بالعتاق، فلو أن اسم امرأتك (طالق) في البطاقة الشخصية، فقال القاضي: قل: امرأتي طالق ما فعلت كذا، القاضي يقصد اليمين، وهذا يقصد ذكر اسمها، فقال: امرأتي طالق ما فعلت كذا، فهو ورى وقصد ذكر اسم امرأته.
وكذلك لو حلفه القاضي وقال: قل: امرأتي طالق، فقال: بل امرأتي طلاق، فقبل القاضي منه ذلك؛ لأنه يعلم الفرق بين كلمة طالق وطلاق، فطلاق أبلغ، ثم أُخبِرَ القاضي بعد ذلك ب