[ذكر أقوال العلماء وخلافهم في نصاب حد السرقة]
قال: (أجمع العلماء على قطع يد السارق كما سبق، واختلفوا في اشتراط النصاب وقدره، فقال أهل الظاهر: لا يشترط نصاب، بل يقطع في القليل والكثير).
واحتجوا بعموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:٣٨].
فهي مطلقة بغير قيد.
واستدلوا أيضاً بحديث: (لعن الله السارق، يسرق البيضة ويسرق الحبل) فالبيضة المراد بها: البيضة التي تؤكل، لكن جماهير العلماء قالوا: لا تقطع اليد إلا في نصاب، وحجتهم هذا الحديث الظاهر: (لا قطع إلا في ربع دينار - أي ذهب - فصاعداً) واعتبروا أن عموم الآية مخصص بهذا الحديث.
وهناك مسألة نزاعية أخرى: هل السنة تخصص القرآن؟
الجواب
نعم.
وهذا مذهب أهل السنة، وذهب بعض أهل الانحراف إلى أن السنة لا تخصص القرآن، وهذا كلام فاسد.
قال: قال الشافعي: النصاب ربع دينار ذهباً أو ما قيمته ربع دينار، سواء كانت قيمته ثلاثة دراهم أو أقل أو أكثر، ولا يقطع في أقل منه.
وبهذا قال الأكثرون، وهو قول عائشة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث وأبي ثور وإسحاق وغيرهم، وروي أيضاً عن داود.
وقال مالك وأحمد وإسحاق في رواية: تقطع في ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو ما قيمته أحدهما، ولا قطع فيما دون ذلك.
وقال سليمان بن يسار وابن شبرمة وابن أبي ليلى والحسن في رواية عنه: لا تقطع إلا في خمسة دراهم- واستندوا إلى حديث ضعيف- وهو مروي عن عمر بن الخطاب.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تقطع إلا في عشرة دراهم أو ما قيمته ذلك، واستندوا كذلك إلى حديث ضعيف.
قال النووي: (وحكى القاضي عن بعض الصحابة: أن النصاب أربعة دراهم).
واستندوا كذلك إلى نص غير صحيح.
قال: (وعن عثمان البتي: أنه درهم.
وعن الحسن: أنه درهمان.
وعن النخعي: أنه أربعون درهماً أو أربعة دنانير).
والصحيح ما قاله الشافعي وموافقوه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح ببيان النصاب في هذه الأحاديث من لفظه وأنه ربع دينار.
قال النووي: (أما باقي التقديرات فمردودة لا أصل لها، مع مخالفتها لصريح هذه الأحاديث).
أما رواية: (أنه صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم) فمحمولة على أن هذا القدر كان ربع دينار فصاعداً، وهي قضية عين لا عموم لها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دارهم أو ربع دينار، وهذه حادثة عين تحفظ ولا يقاس عليها أي مجن آخر؛ وذلك لأن المجن ليس هو الضابط في إيقاع الحد على السارق، إذ إن المجن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يساوي ثلاثة دراهم، لكن بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يساوي درهمين، وفي زماننا هذا لا يساوي شيئاً.
إذاً: هذه حادثة عين تحفظ ولا يقاس عليها، وقلنا: (تحفظ) لأنها كانت ذات قيمة تستوجب إقامة الحد.
قال النووي: (فلا يجوز ترك صريح لفظه عليه الصلاة والسلام في تحديد النصاب لهذه الرواية المحتملة) أي: هذه الرواية بربع دينار.
(بل يجب حملها على موافقة لفظه).
قال: (ولا بد من هذا التأويل ليوافق صريح تقديره صلى الله عليه وسلم.
وأما ما يحتج به بعض الحنفية وغيرهم من رواية جاءت (قطع في مجن قيمته عشرة دراهم) وفي رواية (خمسة) فهي ضعيفة لا يعمل بها لو انفردت فكيف وهي مخالفة لصريح الأحاديث الصحيحة.
والله تعالى أعلم.