للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث (اللهم فإني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار)]

وفي كتاب الصلاة وغيره: (بيان تعوذه عليه الصلاة والسلام من فتنة القبر)، وفتنة القبر هي فتنة منكر ونكير؛ لأن فتنة القبر غير عذاب القبر، ففتنة القبر إنما تكون حين سؤال الملكين للرجل، من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فإذا كان العبد من أهل الإيمان والعمل والتوحيد سدد ووفق وثبت في الإجابة عن هذا السؤال، قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد عليه الصلاة والسلام.

وإذا لم يكن العبد من أهل الإيمان والتوحيد ولم يكن عاملاً، بل كان عاصياً مستهتراً، أو كان جاحداً منكراً أو منافقاً أو كافراً قال: (لا أدري، وجدت الناس أو سمعت الناس يقولون: كذا فقلت كذا).

وفي رواية يقول: (ها ها لا أدري).

كالمشدوه الذي ظن أنه لا يقف هذا الموقف قط، فالمنكرين الآن لعذاب القبر وفتنة القبر، والمكذبين الآن لسؤال منكر ونكير لا بد أنهم سيفاجئون بذلك؛ لأنه لم يكن هذا في ظنهم في الدنيا، بل جحدوا ذلك وأنكروه، ولذا فإنهم سيفاجئون في قبورهم حين نزولهم وإغلاق القبر عليهم بمنكر ونكير، والذي قلما يثبت بأس المرء وقلب المرء أمام منظريهما، إلا من ثبته الله تعالى؛ ولذلك الصحابة رضي الله عنهم الذي بلغوا في العلم والفضل والتقوى والورع والمنزلة مبلغاً عظيماً جداً كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول إذا دفن أحدهم: (أدعو لأخيكم فإنه الآن يسأل).

لأنه أحوج ما يكون إلى الدعاء بالتثبيت، وهو في أمس الحاجة لدعاء إخوانه وهو يسمع قرع نعالهم في الخارج.

وهنا: إثبات استحباب الدعاء والقيام على القبر مدة من الزمان تكفي لنحر جزور وسلخه وتوزيع لحمه أو تفريق لحمه، وهذه المدة التي يبقى فيها منكر ونكير مع هذا المقبور حديثاً.

أما عذاب القبر فإنما مثله كما مر النبي عليه الصلاة والسلام بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة).

فهناك بعض الأعمال يعاقب الله عليها العبد في الدنيا، وبعضها يعاقب عليها في القبر، وهي الدار الثانية، وبعضها يعاقب عليها في الدار الآخرة سبحانه وتعالى.

وقد شرحنا الكلام هذا وقلنا: فيه خمسة عشر قولاً لأهل العلم، وأرجح الأقوال في قوله: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير).

أي: هذا العمل الذي يعذب المخلوق بسببه لم يكن شديداً ولا قاسياً عليه في الدنيا، إذ كان بإمكانه أن يحترز منه، لكنه لما فرط وأهمل عذب بسبب التفريط في قبره.

قال: (أما فتنة المسيح الدجال، فأنتم تعلمون أنه لن تكون فتنة أعظم منذ أن خلق الله تعالى آدم إلى قيام الساعة من فتنة المسيح الدجال، وقد تكلمنا عن المسيح مراراً وتكراراً بما يغني عن إعادته الآن.

قال: أما غسل الخطايا بالماء والثلج فهذا تشبيه المراد منه: شدة التنقية أو شدة النقاء، فتقول: اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد.

وكأن التقدير: اللهم اغسلني.

أي: اللهم اغسل لي خطاياي واجعلني نقياً نقاءً تاماً منها كما إذا غسل الثوب الأبيض بالماء أو الثلج أو البرد.

وفي تكملة الحديث: (ونق قلبي من الخطايا)، أي: اجعله طاهراً مطهراً كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، أي: من الوسخ.

وأهل القبور لا يفتنون بـ الدجال؛ لأن الدجال يبعث قبل قيام الساعة، وأن من مات لا يبعث إلا مع البعث العام، ولا يكون البعث إلا بعد موت الدجال، بل وموت الخلائق جميعاً حتى الملائكة، وأول من تنشق عنه الأرض هو النبي عليه الصلاة والسلام، على خلاف بينه وبين موسى عليه السلام.

والراجح: أن الأرض أول ما تنشق عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فيجد موسى عليه السلام عند العرش فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فلا أدري أصعق قبلي، أو أفاق من الصعقة قبلي؟).

لكن الراجح من أقوال المحققين: أن الأرض أول ما تنشق عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

قال: [(ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس) فانظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو الذي يدعو بهذا الدعاء: [(اللهم اغسلني من ذنوبي بالماء والثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس)]، وقلبه منقى عليه الصلاة والسلام، وقصة شق الصدر التي هي من معجزاته عليه الصلاة والسلام ليست بخافية عنا، فقد انتزع من قلبه حظ الشيطان وملئوه إيماناً، فليس فيه إلا الإيمان بالله تعالى، لكن النبي عليه الصلاة والسلام الذي كان يدعو بهذا الدعاء، ويستمر على هذا الدعاء إنما يتأدب مع ربه بإظهار الذل والخضوع والانكسار بين يديه سبحانه وتعالى.

كما أن من الفوائد في هذا الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان هو القدوة والإسوة أراد أن يدعو بهذا الدعاء ليعلم الأمة كيف تدعو الله تعالى، فقال: [(وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)].

فهنا مجاز أيضاً، وهو أن النبي عليه