[قصة رجوع ملك الحبشة إلى النجاشي كما رواها عروة]
قصت أم سلمة قصة النجاشي، إذ قال لـ عمرو بن العاص: فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليّ ملكي، وأنتم تعلمون أن عمرو بن العاص كان في ذلك الوقت مشركاً ولم يكن قد آمن بعد، فلما ذهب عبد الله بن عمرو بن العاص ليدفع الهدايا للنجاشي كي يرد هؤلاء المؤمنين، ويطردهم من بلده، ويسفّه أحلامهم، ويرد عليهم دعوتهم علم النجاشي أنهم كذبة وأنهم فجرة، وأن الحق مع أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فأمر سعاته وولاته أن يدفعوا تلك الهدايا لـ عمرو بن العاص فلا حاجة للنجاشي إليها، ثم قال: فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي وما أطاع الناس في فأُطيع الناس فيه.
قال عروة -وهو الراوي لهذا الحديث- للزهري: قال: أتدري يا زهري! ما هذا؟ قال: لا.
قال: إن عائشة رضي الله عنها حدثتني أن أباه كان ملك قومه.
أي: أبو النجاشي هذا كان ملك الحبشة، ولم يكن له ولد إلا النجاشي، وكان للنجاشي عم له من صلبه اثنا عشر رجلاً، فأهل الحبشة قالوا: لو أن أبا النجاشي توفي لم يكن له من عقبه إلا ولد واحد، وماذا نفعل إذا مات هذا الولد بعد أن صار ملكاً؟ فالأولى لنا أن نؤمّن الحبشة بملوكها مدة طويلة من الزمان، فأرادوا نقل الملك من أبي النجاشي إلى أخيه الذي له من الولد اثنا عشر ولداً، حتى إذا مات انتقل الملك مباشرة إلى أولاده، فماذا صنعوا؟ تآمروا على قتل والد النجاشي، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة فقالت الحبشة بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملّكنا أخاه، فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه اثني عشر ولداً فتوارثوا ملكه من بعده فبقيت الحبشة بعده دهراً؛ فعدوا على أب النجاشي -أي: فوثبوا عليه- فقتلوه، وملّكوا أخاه، فمكثوا على ذلك مدة من الزمان ونشأ النجاشي مع عمه -أي: أن النجاشي الذي صلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام نشأ في ملك عمه- وكان لبيباً حازماً من الرجال، فغلب على أمر عمه -أي: قرّبه جداً هذا العم وأدناه منه لذكائه وفطنته- ونزل من عمه بكل منزل، فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالت بينها: والله إنا لنتخوف أن يملّكه -أي: يترك أولاده ويملّك ابن أخيه، إذاً: لا نكون قد صنعنا شيئاً- ولئن ملكه علينا ليقتلنا جميعاً؛ وذلك لأننا قد قتلنا أباه، فذهبوا إلى عمه فقالوا له: إما أن تقتل هذا الفتى وإما أن تخرجه من بين أظهرنا، فإنا قد خفنا على أنفسنا منه.
قال: ويلكم قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم؟ بل أخرجوه من بلادكم -ارتكاب أخف الضررين وهو النفي- قال: فخرجوا به فباعوه من رجل تاجر بستمائة درهم، ثم قذفه في سفينة فانطلق به، حتى إذا كان المساء من ذلك اليوم هاجت سحابة من سحاب الخريف على الحبشة، فخرج عمه يستمطر تحتها -أي: يطلب المطر- فأصابته صاعقة فقتلته، ففزعت الحبشة إلى ولده، فإذا هم حمقى ليس في ولد من أولاده خير -كلهم بلد مجانين صرعى، فكيف يملكون مجنوناً عليهم- فمرج على الحبشة أمرهم، فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك قال بعضهم لبعض: تعلمون والله أن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره الذي بعتموه غدوة، لا سبيل لكم إلا أن تذهبوا فتأتون به مرة أخرى وتملّكوه أمركم، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه -أي: إذا كنتم حريصين على البلد ومصلحة البلد فملكوا النجاشي- فخرجوا في طلبه حتى أدركوه، فأخذوه من التاجر ثم جاءوا به، فعقدوا عليه تاجه، وأجلسوه على سرير الملك وملكوه.
قال: فجاءهم التاجر: إما أن تعطوني مالي وإما أن أكلمهم ذلك.
-أي: أنهم أخذوا منه النجاشي ولم يعطوه ما قد أخذوه منه- فقالوا: لا نعطيك شيئاً.
قال: إذا: والله لأكلمنه.
قالوا: فدونك -كأنهم يقولون له: اذهب فكلمه بما تريد- فجاءه فجلس بين يديه فقال: أيها الملك! ابتعت غلاماً -وانظر إلى أدب التاجر فلم يقل له: أنت عبدي وأنا اشتريتك- قال: أيها الملك! ابتعت غلاماً من قوم في السوق بستمائة درهم، فأسلموه إلي وأخذوا دراهمي، حتى إذا صرت بغلامي أدركوني فأخذوا غلامي ومنعوني دراهمي.
فقال لهم النجاشي: لتعطنه دراهمه أو ليسلّمن غلامه في يديه فليذهبن به حيث شاء! قالوا: بل نعطيه دراهمه.
قالت أم سلمة: فلذلك يقول: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي.
قال ذلك لأن هذا الملك هو ملك النجاشي وليس ملك ابن عمه، بل هو ملك أبيه ينتقل إليه، فلما حاولوا زحزحة الملك إلى العم بقتل أخيه انتقل الملك بعد ذلك إلى الأولاد، ولكن الأولاد لم يصلح منهم أحد لهذه المهمة؛ فاضطر أهل الحبشة إلى إرجاع الملك إلى النجاشي.
هل حاباهم بشيء؟ هل دفع لله رشوة أن رد عليه ملكه؟ حاشى؛ ولذلك قال لـ عمرو بن العاص: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه.
وكان ذلك أول ما عرف من صلابته في دينه وعدله في حكمه.
هذا كان أول موقف من مواقف النجاشي، أنه صاحب عدل وصلابة وقوة في الحق، حتى وإن كان ذلك على حساب ملكه.
ثم قالت