للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[انطلاق أبي سفيان إلى الشام ولقاؤه برسول رسول الله إلى هرقل الروم]

يقول أبو سفيان: (انطلقت في المدة التي كانت بيني)؛ لأن المدة في الغالب كانت معقودة بين قريش متمثلة في صورة أبي سفيان، وبين المؤمنين متمثلة في صورة النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: [(انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل -يعني: عظيم الروم- قال: وكان دحية الكلبي جاء به)].

وهو دحية بن خليفة الكلبي من كبار أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، جاء بهذا الكتاب إلى هرقل.

قال: [(فدفعه إلى عظيم بصرى)] أي: لم يدفعه إلى هرقل مباشرة وإنما دفعه إلى أمير بصرى، وبصرى: قرية بين المدينة والشام.

دفع دحية الكلبي هذا الكتاب إلى عظيم بصرى؛ ليدفعه بدوره إلى هرقل، وعظيم بصرى هو الحارث بن أبي شمر الغساني، وبصرى هي المعروفة بحوران.

قال: [(فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل، فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم)] أي: هل هاهنا في بلاد الشام رجل من قوم ذاك الرجل الذي خرج في مكة ويزعم أنه نبي؟ أجابوه: نعم.

ولا بد أن يكون في الشام أحد من مكة، لكنه طلب مطلباً أخص من ذلك أن يكون هذا الموجود من أقارب ذلك الرجل الذي يزعم أنه نبي عليه الصلاة والسلام، وفي رواية: أن هرقل قال: قلّبوا الشام ظهراً إلى بطن وائتوني بقريب لذاك الذي يزعم أنه نبي، ففعلوا فوجدوا أبا سفيان.

قال: [(فدعيت في نفر من قريش) وفي رواية: أن هؤلاء النفر كانوا ثلاثين رجلاً وخرج بهم أبو سفيان إلى الشام في تجارة.

قال: [(فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فقال: أيكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: قلت: أنا فأجلسوني بين يديه -أي: بين يدي هرقل - وأجلسوا أصحابي خلفي)] أجلسوا بقية الثلاثين أو الثلاثين الذين كانوا في هذا الركب مع أبي سفيان للتجارة خلف أبي سفيان، أما أبو سفيان نفسه فجلس مستقبلاً هرقل وبين يديه.

وهذه مجالس الملوك في الغالب، أن الوجيه إذا دخل على ملك من ملوك الدنيا أجلسه بين يديه، وأجلس أصحابه من بعده ومن دونه.

وهناك حكمة استخدمها هرقل في وضع هؤلاء خلف أبي سفيان؛ قال للترجمان الذي كان بينه وبين أبي سفيان: إني سائل هذا الرجل فإن كذب علي فأخبر هؤلاء أن يكذبوه، وإنكم لتعلمون أن أبا سفيان كان شريفاً عظيماً مرموقاً في الجاهلية وبين قومه، وإذا كان للرجل في قومه هذه المهابة وهذه المكانة فيصعب على أتباعه وقومه أن يكذّبوه وجهاً لوجه؛ ولذلك أجلسهم خلفه حتى إذا كذب كذبوه، ويسهل عليهم تكذيبه ولو بالإشارة؛ لأنه إن أجلسهم في مقابلة أبي سفيان ربما منعهم الحياء أو الخوف والمهابة أن يكذّبوه إذا كذب، فهذه الجلسة التي اختارها هرقل بحكمته وفطنته وذكائه فلا يبعد أن يكذّب هؤلاء القوم أبا سفيان إذا كذب.

قال: [(فدعا بترجمانه)] وكلمة ترجمان بفتح التاء أفصح من تُرجمان بضمها.