[باب غزوة ذي قرد]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الباب الخامس والأربعون من كتاب الجهاد: (باب: غزوة ذي قرد وغيرها).
وذي قرد: اسم لموضع يبتعد عن المدينة مسافة يوم.
أي: للسائر على قدميه أو الراكب على دابة بطيئة السير.
فقوله: (باب: غزوة ذي قرد) أي: باب ذكر ما حدث في تلك الغزوة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حاتم -وهو ابن إسماعيل - عن يزيد بن أبي عبيد قال: سمعت سلمة بن الأكوع رضي الله عنه يقول: (خرجت قبل أن يؤذن بالأولى)] أي: قبل أن يؤذن لصلاة الظهر؛ لأنها أول صلاة صلاها النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(وكانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم)] اللقاح: جمع لقحة، وهي: حديثة العهد بالولادة، أي: ذات اللبن.
قال: [(وكانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعى بذي قرد، فلقيني غلام لـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: أُخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت من أخذها؟ قال: غطفان)] وغطفان هي موضع لقرار اليهود وسكنهم.
قال: [(فصرخت ثلاث صرخات: يا صباحاه!)] أي: أنه كان ينادي ثلاث مرات ويقول: يا صباحاه! قال: [(فأسمعت ما بين لابتي المدينة)] أي: ما بين جبلي المدينة، والمدينة معلوم أنها بين جبلين، فصرخ سلمة وكان قوياً جداً ثلاث مرات ينادي على كل من أصبح من المسلمين في المدينة أن يجتمع: يا صباحاه! أي: اجتمعوا يا من أصبح عليكم الصباح! قال: [(ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم بذي قرد)] أي: انطلق مسرعاً باتجاه الموضع الذي أُخذت فيه لقاح النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [(وقد أخذوا يسقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي)] أي: غطفان حينما أصبح عندهم سلمة بن الأكوع وجدهم يسقون في أول النهار.
قال: [(فجعلت أرميهم بنبلي وكنت رامياً)].
نعم.
سلمة بن الأكوع معدود في الرماة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [(وأقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضّع)].
يقول العلماء: فيه جواز قول مثل هذا الكلام في القتال، وتعريف الإنسان بنفسه إذا كان شجاعاً ليرعب خصمه.
أي: إذا كان هذا الإنسان معروفاً بالشجاعة والقوة والإقدام وعدم الإحجام، فلا بأس أن يذكر اسمه لبث الرعب في قلوب الأعداء؛ ولذلك قال لهم: أنا ابن الأكوع، لكن ما قصة واليوم يوم الرضّع؟ قالوا: معناه: اليوم يوم هلاك اللئام.
أي: اليوم أرسلني الله تعالى إليكم لأهلككم فأنتم رضع أي: لئام، من قولهم: لئيم راضع.
أي: رضع اللؤم وهو في بطن أمه.
وقيل: لأنه يمص حلمة الشاة والناقة لئلا يسمع الضيفان صوت الحلاب فيقصدونه، وكان البخيل الشحيح من العرب إذا أراد أن يحلب الناقة وضع ثديها في فمه ورضعها، حتى لا يسمع السائل أو الضيف صوت الحلاب فيضطر آسفاً أن يقدم له شيئاً من اللبن.
فيقال: هذا أشد اللؤم وأخبثه.
فقال: أنتم يا غطفان! مشهور عندكم هذا، أنكم إذا أردتم حلب الشياه أو النوق مصصتم اللبن من الثدي مصاً حتى لا تقدموا شيئاً للضيفان أو للسائلين.
وقيل: لأنه يرضع طرف الخلال الذي يخلل به أسنانه.
أي: إذا حلب وضعه في فمه يرضعه رضاعاً، ويمص ما يتعلق به من فضلات الطعام، وفيه أيضاً إشارة إلى الشح والبخل.
وقيل معناه: اليوم يُعرف من رضع كريمة فأنجبته، أو لئيمة فهجنته.
وقيل معناه: اليوم يُعرف من أرضعته الحرب من صغره، وتدرب بها وعُرف بها.
كأنه يتحداهم بشجاعتهم ويقول: أنا ابن الأكوع وبيني وبينكم هذا اليوم إما أنا وإما أنتم.
فقال: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضّع قوله: [(فأرتجز -أي: من الرجز شيئاً أكثر من ذلك- حتى استنقذت اللقاح منهم)]، حتى أخذ اللقاح من غطفان.
قال: [(واستلبت منهم ثلاثين بردة -والبردة: هي العباءة- وجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس فقلت: يا نبي الله! إني قد حميت القوم الماء -أي: إني قد منعت القوم أن يشربوا من الماء- وهم عطاش فابعث إليهم الساعة)] أي: إذا شئت أن تبعث إليهم فابعث، فقال: (يا ابن الأكوع! ملكت فأسجح)] أي: تمكنت منهم فاعف.
انظروا إلى رحمة النبي عليه الصلاة والسلام حتى لهؤلاء اليهود.
يقول: [(يا ابن الأكوع! ملكت فأسجح)].
ورجل ساجح وامرأة سجحاء أي: معروف بالحلم والصفح والعفو عند المقدرة.
قال: [(ثم رجعنا ويردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى دخلنا المدينة)].
أي: أركبني خلفه على الداب