[المبادرة بقضاء الحقوق الواجبة على الميت]
وفي قوله عليه الصلاة والسلام لـ سعد بن عبادة: (فاقضه عنها) دليل لقضاء الحقوق الواجبة على الميت على العموم: سواء كانت حقوقاً مالية، أو بدنية، أو مالية بدنية.
فأما الحقوق المالية فمجمع عليها، والحقوق التي يجب إخراجها من التركة قبل الميراث هي الديون، ودين الله تعالى أحق بالوفاء.
فلو نذر شخص في ماله نذراً فهذا حق لله عز وجل يجب الوفاء به.
وأما الحقوق البدنية ففيها خلاف، كما تقدم في مواضع من هذا الكتاب، فلو أن ميتاً مات وعليه صيام النافلة فلا يلزم القضاء عنه على الراجح، ولو أن شخصاً صام الإثنين أو الخميس ثم ذهب لزيارة صاحبه وهو صائم فوجده يأكل أكلاً لذيذاً فجلس يأكل معه فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه).
ثم إن الجمهور: على أنه لا يلزمه القضاء؛ لأنه متطوع، وهذا صيام تطوع ونافلة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (المتطوع أمير نفسه)، يعني: هو الذي اختار الصيام لنفسه، فإذا كان يريد أن يواصل واصل، وإذا كان يريد أن يقطع الصيام قطعه، وجاء الحديث عند البخاري بلفظ: (إلا أن تطوع فهذا شيء لك).
ففرق بين الفرائض وبين التطوع، فمن جهة الوجوب والإلزام بعد الفرائض ليس عليك إلا أن تطوع، فهذا تطوع منك، والبعض يقول: المعنى: إلا أن تطوع فيجب عليك؛ لأنه قال: (هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع)، يعني التقدير: إلا أن تطوع فيجب عليك، فالقائلون بهذا الرأي قالوا: إلا أن يشرع في التطوع فيجب عليه، والقائلون بوجوب إعادة التطوع يشترطون التلبس والدخول في الطاعة.
وإذا أراد شخص أن يصلي سنة المغرب وهو متردد أيصلي أم لا؟ فإنه لا يأثم بذلك مع أن سنة المغرب سنة مؤكدة، فإذا عزم أن يصلي فقام وتوجه إلى القبلة ثم كبر، ولم يقرأ الفاتحة -لأنه يصلي سنة- لم تصح صلاته؛ لأنه بمجرد شروعه في النافلة قد أوجبها على نفسه من جهة العمل والإتمام، يعني: أوجب إتمامها وأداءها على نفسه، لا أنها في نفسها واجبة، ولكن وجوب الإتمام فيها كالفريضة.
ولو أن إنساناً ذهب ليحج حج نافلة قارناً فأهل من الميقات وساق الهدي معه ودخل مكة لم يجز له أن يتخلف متعمداً عن الوقوف بعرفات ويقول: أنا متنفل، بل يلزمه أداء الحج إلى آخره؛ لأنه قد تلبس به، وإن كان في أصله نافلة.
وفي المسألة مذاهب أخرى لا داعي لسردها، ولكن هذين أقوى المذاهب في المسألة.
قال: (ثم مذهب الشافعي وطائفة أن الحقوق المالية واجبة على الميت من زكاة وكفارة ونذر يجب قضاؤها، سواء أوصى بها أم لا).
وهذا مشروط بأن يترك مالاً يكفي للوفاء بهذا، وسواء أوصى بذلك أم لا؛ لأن هذا حق لله عز وجل عليه، وحقوق الله عز وجل مقدمة على حقوق العباد فيما يتعلق باستخراجها من التركة قبل توزيع الميراث، فإذا كان عليه زكاة مال وقد وجبت عليه ومات قبل أن يخرجها كأن تكون الزكاة وجبت عليه اليوم ومات بعد أسبوع مثلاً، ولكنه لم يكن قد أخرجها -والزكاة لا تجب إلا بالملك، أي: بملك النصاب، وحولان الحول، فمعنى قولنا: إنه قد وجبت عليه الزكاة يعني: أنه يملك- فهذا حق الله عز وجل، يجب على الورثة إخراج هذا المال أوصى أو لم يوص.
وبعض أهل العلم قال: لا يلزمهم ذلك إلا بوصية؛ وهذا مذهب مرجوح، والراجح أنه يلزمهم إخراج حق الله من كفارة يمين، أو نذر، أو زكاة مال من مال الميت أوصى أو لم يوص ما دام أنه ترك ما يفي بهذا النذر أو كفارة اليمين أو زكاة المال.