[شرح حديث: (وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)]
قال: [حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة وأبو الربيع جميعاً عن حماد بن زيد عن ثابت بن أسلم البناني عن أبي بردة الأشعري عن الأغر المزني -وكانت له صحبة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليغان على قلبي)] أي: يغشى قلبي ويعلو قلبي، ويفتر قلبي، (وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)].
وفي رواية: (وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة) وليس بين الروايتين تعارض؛ لأن الذي يستغفره أكثر من سبعين مرة لا يمنع أن تكون هذه الكثرة مائة مرة، فالجمع بين الروايتين: أنه لا يمنع أن تكون الكثرة قد بلغت مائة مرة.
وقيل: إن سبب هذا الغين هو اشتغاله بالنظر في مصالح أمته وأمورهم، ومحاربة العدو ومداراته، وتأليف المؤلفة قلوبهم، ونحو ذلك، فيشتغل بذلك من عظيم مقامه، فيراه ذنباً بالنسبة إلى عظيم منزلته.
مثلما تقول الصوفية وإن كان كلاماً يحتمل: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
يعني: الذي أعمله أنا وأنت هذا بالنسبة للمقربين سيئات وليس بحسنات، لأنهم يعبدون الله بمنتهى الشفافية.
ولذلك أنس رضي الله عنه يخاطب تابعي أهل البصرة، يخاطب الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وقتادة، وعبد العزيز بن صهيب، وغيرهم من أئمة البصرة، يقول: إنكم لتعملون أعمالاً ترونها أدق من الشعرة كنا نعدها على عهد النبي عليه الصلاة والسلام من الكبائر.
أنس رضي الله عنه يقول هذا الكلام للحسن البصري الذي علم الأمة كلها الزهد، وقتادة الذي ضرب في الزهد بأعظم باع، فإذا كان هؤلاء بهذا الوصف، فماذا سيكون حالنا؟! (والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل الخلاء قال: أعوذ بك من الخبث والخبائث، وإذا خرج قال: غفرانك).
ومعنى (غفرانك) أنه انقطع عن الذكر في أثناء وجوده في الخلاء؛ لأن هذا المقام لا يتناسب مع ذكر الله، فانقطع ذكره لله على قدر بقائه في الكنيف أو في الحمام أو في الخلاء، فاستغفر ربه بعد خروجه من الحمام لما فرط وقصر من استغفار وذكر وتلاوة.
ولما نرى حالنا نجد أن الواحد يدخل في الصلاة التي هي أصل الذكر ويخرج منها كما دخل.
فالأوقات التي جعلت للذكر لا نذكر الله فيها إلا قليلاً، أما أوقات السلف رضي الله عنهم فقد كانت كلها لله عز وجل، وأما حياة الأنبياء فأسطورة في ذكر الله عز وجل، لا يمكن لأحد قط أن يصل إلى ما وصلوا إليه.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يريد أن يسابق أبا بكر في ذكر الله عز وجل وفي الطاعات وأعمال الخير، فعجز أن يساويه في منزلته، فقال: والله يا أبا بكر! لا أسابقك إلى خير قط، فما سابقتك إلا سبقتني.
يعني: عمر عرف قدره، مع أنه كان إذا ذكر ذكر العدل كله، كان علامة على العدل، وعلامة على الفتوحات، وعلامة على انتصار الإسلام، وعلامة على الصبر، وعلامة على الحلم، وعلامة على كل مكارم الأخلاق.
وعمر رضي الله عنه يقول له: ليتني شعرة في صدرك يا أبا بكر! وهذا من أدب عمر رضي الله عنه، فقد تربى بتربية النبي عليه الصلاة والسلام.
وإذا كان يغان على قلبه عليه الصلاة والسلام لانشغاله بمصالح المسلمين، وقتاله في غزوة بدر وغزوة أحد وخيبر والخندق وغيرها من الغزوات، فينشغل في أثناء الجهاد عن ذكر الله بلسانه وقلبه، لكنه دائماً في طاعة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام فقط من أجل أن يعلم الأمة الأدب، ويربيها أحسن تربية، يقول لهم: أنا في أثناء انشغالي في مصالح الأمة كذلك أنسى أو يذهب عن خاطري أن أذكر الله تعالى بلساني وقلبي، مع أنه ما انشغل قط صلى الله عليه وسلم عن ذكر ربه.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن عيني تنامان ولا ينام قلبي).
يعني: حتى في لحظة النوم أو في وقت النوم قلبه يذكر الله عز وجل.
إذاً: لا يمكن أن ينشغل في أثناء يقظة عينيه عن ذكر الله تعالى، فكيف بالجهاد وقتال العدو والدفاع عن دين الله، فلا يقال عنه: انشغل عن طاعة الله أو عن ذكر الله، وإنما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعلم الأمة كيف تتربى وكيف تتعامل مع ربها.
وعائشة رضي الله عنها استغربت اجتهاد النبي عليه الصلاة والسلام في طاعة ربه، وقيامه حتى تورمت قدماه، فقالت له: (رفقاً بك يا رسول الله! إن الله تعالى قد غفر لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر) مع أنه أول من تنشق عنه الأرض، ولا يدخل أحد الجنة إلا بعد دخوله.
وعددت من مناقبه عليه الصلاة والسلام، وهو يسمع، ثم قال لها: (أفلا أكون عبداً شكورا).
وهذا يدل على أن عبادته لله كانت عبادة شكر وليس عبادة إلزام كحالي أنا وأنت، نحن نعبد