[باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها]
(الباب الأول: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها).
إن في الجنة شجرة: أي واحدة، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: أي لا ينتهي منها.
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه - أبي سعيد المقبري - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة)].
تصور لو أن شجرة في الدنيا يسير الراكب الجواد المسرع المضمر فيها لمدة ربع ساعة، لابد أن هذه الشجرة يعبدها الناس من دون الله عز وجل، وتأتي لها الوفود من شرق الأرض وغربها، للنظر إليها والتبرك بها، وعدوها من المعجزات، وهو يسير في ظلها ربع ساعة فقط، فما بالك أن تسير في ظل شجرة مائة عام وأنت راكب جواد مسرع قوي متين، ثم لا تقطعها بعد ذلك ولا تفرغ من المشي في ظلها.
قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة - وهو ابن عبد الرحمن الحزامي - عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وزاد: (لا يقطعها).
حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -وهو المعروف ابن راهويه - أخبرنا المخزومي -وهو المغيرة بن سلمة أبو هشام البصري - حدثنا وهيب -وهو وهيب بن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم البصري -عن أبي حازم، عن سهل بن سعد - أبو حازم هو سلمة بن دينار - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها)، قال أبو حازم -أي: سلمة -: فحدثت به النعمان بن أبي عياش الزرقي فقال: حدثني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها)].
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه زيادة على ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو بيان أن هذا السير للراكب الجواد المضمر السريع، والتضمير كما قال أصحاب اللغة، وأصحاب غريب الحديث: هو أن تأتي بفرس وتعلفها علفاً كثيراً حتى تأكل ويظهر لحمها وتسمن حتى تصير عظيمة، منتفخة من فرط سمنها، ثم لا تعلف بعد ذلك إلا قوتاً، ومعنى قوتاً: على قدر حاجتها، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)، أي: على مقدار طعامهم وشرابهم في كل يوم بغير زيادة، وفيه بيان لما كان عليه النبي من زهد هو وأهل بيته عليه الصلاة والسلام.
فالإنسان يضع أمام الدابة أو الفرس طعاماً عظيماً جداً فيلتهمه ويأكله بشراهة حتى يسمن، ثم بعد ذلك يمنع عنه الطعام ولا يقدم له إلا شيئاً يسيراً، بحيث إنه لا يشبع كما كان يشبع من قبل حتى يترهل لحمه ثم ينزل ذلك كله عرقاً، إذا منعت عنه الطعام نزل ذلك السمن والدهون بعد ذلك عرقاً، خاصة لو أنك جللت هذا الفرس ووضعت عليه الأحمال التي تجعل بدنه يزداد حرارة فيصفو ما في بدنه من دهن ويشتد لحمه ويكون قوياً، وهذه صورة من صور دواب العرب، والعرب يعلمون التضمير ويعرفونه، فهو يقول: إن الراكب لهذا الجواد المضمر السريع يمشي في ظل هذه الشجرة مائة عام وهو مسرع يعدو ولا يتوقف مائة عام ومع هذا لا يقطعها.
ثم يقول العلماء: المراد بظلها كنفها وذراها، والإمام النووي رحمه الله مال مع من مال إلى أن الظل هنا هو الكنف، ولم يفسر الظل على ظاهره، فهو لم يتوقف عند ظاهر النص، وإنما اضطر إلى التأويل، قال: لو قلنا بالظل فيلزمنا أن نقول بالشمس، ومعلوم أن الجنة: {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان:١٣]، فإذا قلنا أن الراكب المسرع يسير في ظل الشجرة فيلزم من ذلك وجود شمس أو كهرباء، ولا يوجد في الجنة لا شمس ولا كهرباء؛ لأنها منيرة بنور وجه الله العظيم، فحينئذ اضطر أهل العلم أن يقولوا: أن ظل الشجرة ليس على ظاهره، وإنما المقصود بالظل الكنف والذرى، أي: أنه يمشي في ذراها وفي كنفها أو تحتها وتحت أغصانها، هذا هو المقصود بالظل وليس الظل على حقيقته، وهذا التأويل سائغ ومقبول، وليس كل تأويل مذموم ومردود، والله عز وجل يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل:٩٨]، و (قرأ) فعل ماض، وظاهر النص أن الاستعاذة في آخر القراءة، لكن التأويل السائغ: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم الكنيف فليقل: باسم الله)، وفي رواية: (