للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث ابن عباس: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت)]

قال: [وحدثني حجاج بن الشاعر قال: حدثنا عبد الله بن عمرو أبو معمر] وهو التميمي المقعد، هكذا لقبه.

قال: [حدثنا عبد الوارث وهو عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان البصري، أحد الأعلام، حدثنا أبو عبيدة العنبري التميمي قال: حدثنا الحسين -وهو ابن ذكوان المعلم البصري - قال: حدثني ابن بريدة -وهو عبد الله بن بريدة - عن يحيى بن يعمر البصري عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت، أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)] هذا دعاء رائع جداً وجميل، وفيه ما يلي: أولاً: فيه الإذعان والاستسلام لله عز وجل؛ لأنه في أوله كان يقول: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت) فيقول: لك أسلمت.

أي: انقدت إليك وأذعنت واستسلمت وخضعت ولا أومن إلا بك.

ومن سياق الكلام لم يقل: اللهم إني أسلمت لك.

ولكنه قال: (لك أسلمت).

وهذه شبه جملة، مكونة من الجار والمجرور تفيد الحصر والقصر، فكأنه يقول: لك أسلمت لا لغيرك، وبك آمنت لا بغيرك، فهو يقصر الإيمان على الله عز وجل والإسلام لله عز وجل، كما أنك تقرأ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥]، فلو قلت: نعبد إياك ونستعين إياك لجاز أن يقال: نعبد إياك وغيرك، ونستعين إياك وغيرك، لأن الجملة حينئذ لا تفيد الحصر، فيجوز أن نعبد الله ونعبد غيره، ويجوز أن نستعين بالله ونستعين بغيره؛ لأن الجملة لا تفيد الحصر.

أما قولك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:٥] أي: العبادة مقصورة على الله عز وجل، لا تصرف إلا لله، وكذلك الاستعانة مقصورة ومحصورة فيه سبحانه وتعالى، فلا يجوز صرفها لغير الله.

قال: (وعليك توكلت).

ولم يقل: (توكلت عليك).

إلى آخر الحديث؛ ليدل على حصر هذه العبادات كلها في جنب الله عز وجل، وأنه لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، ولو صرف شيء منها لغير الله لوقع الفاعل في الشرك؛ لأن هذه كلها عبادات.

وهذا الحديث كذلك يبين الفرق بين الإيمان والإسلام؛ لأنه لم يقل: لك أسلمت وآمنت، وإنما قال: (لك أسلمت وبك آمنت)، ليدل على أن الإسلام له مدلول وأن الإيمان له مدلول آخر.

فهذا الحديث قد بين الفارق بين الإيمان وبين الإسلام، وأنتم تعلمون أن كل مؤمن مسلم ولا بد، وليس كل مسلم مؤمناً، كما أن كل محسن مؤمناً ولا بد، ومن باب أولى أن يكون مخلصاً، ولا يلزم أن يكون المؤمن محسناً؛ لأن الإحسان أعلى مرتبة من الإيمان، كما أن الإيمان أعلى مرتبة من الإسلام، فالأعلى يشمل الأدنى وليس العكس.

قال: (وإليك أنبت) أي: رجعت.

(وبك خاصمت) المخاصمة هي: المحاججة؛ ولذلك يقال: فلان دخل مع فلان في خصومة.

أي: ليس في خصام، وإنما في مناظرة، في لجاج، في حجاج، في بيان مسألة الحجة بالحجة، فالمخاصمة هي: المجادلة بالحق، فقوله هنا: (وبك خاصمت) أي: استعنت بك في سرد الأدلة من كلامك، ومن كلامي الذي تلهمني به، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لربه: لا حول لي ولا قوة مع أعدائي إلا بك.

(وبك خاصمت) أي: لا أستطيع أن أخاصم ولا أن أجادل ولا أن أحاجج إلا بك يا رب.

(اللهم إني أعوذ بعزتك) الاستعاذة هي اللجوء والتضرع، فالنبي عليه الصلاة والسلام يتضرع إلى الله عز وجل بعزته، والعزة من صفات الله عز وجل.

قال بعض أهل العلم: لا يجوز القسم إلا بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته، وما دون ذلك فهو شرك.

ولا يجوز نداء الصفة، كما تقول: يا عزة الله، يا رحمة الله، يا قدرة الله، يا ملك الله، ونداء الصفة شرك بالله عز وجل؛ لأنك تنادي الصفة لا تنادي الموصوف، فدخلت الشبهة على بعض السامعين لذكر عزة الله عز وجل، كما في هذا الحديث.

والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في هذا الحديث: (اللهم إني أعوذ بعزتك) فهو استعاذ بصفته تعالى وهي العزة، فهنا استعاذة بعزة الله، والاستعاذة بعزة الله عز وجل ليست نداءً، لأنها مسبوقة بقوله: اللهم، فالنداء أولاً لله عز وجل، ثم أعقب النداء لله عز وجل بالاستعاذة بعزته، فليس هذا باب شبهة قط فيما يتعلق بنداء الصفة.

قال: (اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني) وهذا يثبت أن الخير والشر بإذن الله عز وجل؛ لأنه قال: اللهم إني أعوذ بعزتك.

وقوله: (لا إله إلا أنت) جملة اعتراضية، ففيها إثبات وحدانية الله عز وجل وإلهيته، وأن الخير والشر بيديه.

أما قوله عليه الصلاة والسلام: (والخير في يديك، والشر ليس إليك).

أي: الشر المحض الذي لا خير فيه.

فإنه ليس من أفعال الله عز وجل، لكن الشر الذي يحمل معه الخير هو من فعل الله عز وجل.

فالشر الذي في ظاهره شر ولكنه يحمل معه الخير هو من فعل الله عز وج