[الأحاديث والآثار التي هي على خلاف قول ابن مسعود في آية الدخان]
قال حذيفة: (يا رسول الله! وما الدخان؟ فتلا هذه الآية: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:١٠]) أي: يملأ ما بين المشرق والمغرب، ويمكث أربعين يوماً وليلة).
فأما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فيخرج من منخريه وأذنيه ودبره.
وهذا الحديث صريح، لكنه غير صحيح، وأنتم تعلمون أن الحجة لابد أن تكون صريحة وصحيحة، ولذلك قال ابن جرير: لو صح هذا الحديث لكان فاصلاً، وإنما لم أشهد له بالصحة.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يهيج الدخان بالناس، فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة، وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه) أي: من الفم والأنف والعين وغير ذلك.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية: الدابة، والثالثة: الدجال).
وعن علي رضي الله عنه قال: لم تمض آية الدخان بعد.
وهذا الكلام منافي لقول ابن مسعود: خمس مضين: البطشة، واللزام، والروم والقمر، والدخان.
ومعنى ذلك: أن آية الدخان عند ابن مسعود قد وقعت ومضت، وعلي بن أبي طالب يرفض هذا، وليس وحده فمعه ابن عباس، وغير واحد من السلف، فإنهم يذهبون إلى هذا المذهب، حتى إن العاد لهذا الرأي يجد أنهم جمهور السلف.
قال علي رضي الله عنه: لم تمض آية الدخان بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وتنفخ الكافر حتى ينفد.
وعن ابن عمر قال: يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ، أي: المشوي على الفحم.
ولم تنقل إلينا الروايات أن هذا الدخان أخذ برأس الواحد منهم كهذه الصورة التي صورها ابن عمر، وهذا يدل أن الدخان آية لم تمض بعد.
وعبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت إلى ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلت: ولم؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق.
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن، وهذا القول وافقه عليه جمع من الصحابة والتابعين، وتدل عليه الأحاديث المرفوعة الصحاح والحسان التي أوردناها، والتي فيها دلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة.
وأقصى ما يقال عن كلام ابن مسعود السابق أنه اجتهاد منه، لما قال: الدخان هو الجدب والقحط الذي نزل على كفار قريش، وهذا كلام مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا قال الصحابي قولاً لم يخالفه فيه أحد من الصحابة وانتشر هذا القول كان كالإجماع، إن لم يكن إجماعاً على الحقيقة.
وأما إذا خالفه صحابي آخر فليس في قول واحد منهما حجة فضلاً أن يخالفه جمهور الصحابة، فإذا خالف جمهور الصحابة ابن مسعود فيما يتعلق بالدخان، فيقدم قول جمهور الصحابة، والدليل على ذلك: موافقة علماء الأمة الذين أتوا من بعدهم من التابعين وغيرهم إلى يومنا هذا أن الدخان آية مرتقبة.
ولذلك يخطئ بعض العلماء إذا اغبرت السماء، أو أصابها دخان أو غير ذلك قال: هذه آية الدخان المرتقبة، ثم نفاجئ بأن بعض هؤلاء يذيعون في خطبهم ودروسهم ومنازلهم أننا نمر بآية اليوم، أو قد مررنا بها بالأمس أو غير ذلك، وهذا كلام خطأ؛ لأن السنة بينت أن آية الدخان لا تكون إلا بعد آية الدجال، إلا إذا كان هذا الخطيب يعتقد أن الدجال موجود، فهذا شيء آخر؛ لكثرة الدجاجلة.
وفي مرة من المرات دخل الشيخ سيد سابق الله يرحمه ويحسن إليه المسجد فصلى ركعتين قبل صلاة المغرب، فأنكر عليه أحد الأشخاص إنكاراً شديداً جداً؛ كيف تصلي ركعتين في وقت الكراهة؟ فبعد أن صلى ركعتين، قصد المجلس واستمر في الدرس، ولما جاء المغرب صلى، ثم صلى صلاة العشاء بعد أذان العشاء، ثم أدنى هذا الذي أنكر عليه منه وقال له: أين قرأت أن الصلاة في وقت الكراهة لا تجوز؟ قال: قرأت في كتاب كذا وكذا، وذكر من بين الكتب فقه السنة، قال له: أتعرف فقه السنة؟ قال: نعم للشيخ سيد سابق، وهو لا يعرف أن هذا الشيخ هو سيد سابق، فقال له: أنا سيد سابق، فوضح له الخلاف الذي بين أهل العلم، ورجح أن الصلاة في وقت الكراهة تجوز إذا كانت لسبب، وهذا مذهب الشافعية، وحملوا النهي على مطلق التنفل، وأما ما كان من الصلاة لها سبب كتحية المسجد أو غير ذلك فلا بأس بذلك.
فبهذا نعرف سبب نهي ابن مسعود وإنكاره على هذا القاص، فإنه أنكر لما استقر في علمه أن هذا هو الحق، ولذلك