للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موقف أبي سفيان بين يدي هرقل ملك الروم يسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم]

قال: [(فقال له: قل لهم: إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه.

قال: فقال أبو سفيان: وايم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت) يقسم بالله أبو سفيان لولا أنه يؤثر عليه الكذب -أي: يتناقل العرب أن أبا سفيان كذب في يوم من الأيام مع شركه وكفره وعبادته للأصنام؛ فكان يستقبح الكذب إما بشرع من قبلنا وإما بالعرف والعادة، وما كان عليه بعض العرب من مكارم الأخلاق، وأن الكذب كان عندهم مستهجن ومستقبح؛ ولذلك تمنى أبو سفيان أن يكذب في هذا الموطن؛ لأن رأس مال أبي سفيان محاربة هذا النبي، ولذلك حينما سأله هرقل: هل يكذب هذا النبي؟ قال: لا، ثم رجع، فقال: إنه ساحر كذاب، فلم يلتفت إليها هرقل.

وفي رواية: أن هرقل قال: لا أريد شتمه.

فقال أبو سفيان: (وايم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت).

وفي رواية: (فوالله لولا الحياء من أن يؤثر علي كذباً لكذبت عنه).

قال: [(ثم قال لترجمانه: سله: كيف حسبه فيكم؟ -والحسب: هو النسب- قال: قلت: هو فينا ذو حسب)] وأبو سفيان ذو حسب، وأنتم تعلمون أن أبا سفيان يلتقي مع الجد الرابع للنبي عليه الصلاة والسلام عبد مناف، فـ أبو سفيان إذا نفى نسب النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه نفاه عن نفسه.

قال: [(هو فينا ذو حسب.

قال: فهل كان من آبائه ملك؟) هل كان محمد هذا منحدر من سلالة فيها ملك؟ قال: (قلت: لا.

قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ -أي: قبل أن يزعم أنه نبي مرسل- قلت: لا)].

قال: [(ومن يتبعه: أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟)] ومعنى الأشراف هنا: أصحاب الكبر والوجاهة والنخوة.

فقال: [(قلت: بل ضعفاؤهم)] وهذا لا يعني: أن يكون هذا الكلام خرج مخرج الغالب؛ لأنه كان من أفضل أشراف العرب أتباع النبي عليه الصلاة والسلام كـ أبي بكر وعمر.

قال: [(أيزيدون أم ينقصون؟ قال: قلت: لا.

بل يزيدون قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟)] أي: كرهاً وبغضاً في الدين؛ لأنه ربما يخرج من الدين أحد مكرهاً، فينطق بكلمة الردة وهو مكره، وهو لا يخرج في حقيقة الأمر، لكن في الظاهر أمام الناس أنه قد خرج، وربما يخرج الرجل من الدين ليس من باب السخط والكره لهذا الدين وإنما لمصلحة ينالها، أو لمال يقصده كـ عبيد الله بن جحش، ما ترك الدين إلا لحظ من حظوظ الدنيا.

قال: [(قلت: لا.

قال هرقل: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم.

قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالاً -أي: مداولة مرة لنا ومرة علينا- يصيب منا ونصيب منه.

قال: فهل يغدر؟ قلت: لا.

ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها)].

أي: لكن لا بد أن تعلم يا هرقل أننا الآن في مدة وعهد وأمان، ولا ندري ماذا يصنع فيها ربما يغدر، كأنه أراد أن يقول: ربما يغدر؛ لأن هرقل ضيّق عليه الخناق جداً، فما سأله إلا أسئلة صريحة واضحة لا تحتمل إلا نوعاً واحداً من الجواب إما سلباً وإما إيجاباً، فإنه ترك السلب مخافة أن يؤثر عنه الكذب، وأجاب بإجابات صريحة كلها في صالح النبي عليه الصلاة والسلام، إلا هذه الثغرة: هل يغدر؟ قال: لا، وربما يغدر؛ لأننا في مدة بيننا وبينه، والعهد لم ينته فربما يغدر، والله تعالى عاقبهم بأنهم هم الذين غدروا ولم يغدر النبي عليه الصلاة والسلام، فلما غدروا صاروا محاربين، فحاربهم النبي عليه الصلاة والسلام وفتح مكة في العام الثامن من الهجرة.

قال: [(فوالله ما أمكنني من كلمة أُدخل فيها شيئاً غير هذه)] أي: ما ترك لي ثغرة أبداً أتنقّص فيها محمداً أو أسبّه أو أغلبه إلا هذا السؤال.

وهذا يدل على ذكاء وفطنة وحكمة هرقل فقد كان ذكياً.