[شرح حديث العباس بن عبد المطلب في قتال حنين]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثني أبو الطاهر - أحمد بن عمرو بن سرح قال: أخبرنا ابن وهب حدثني يونس -وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب قال: حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب -أي: ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام- قال: قال عباس: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب -وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم- رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه)].
وفي هذا من الود وعطف الأقارب بعضهم على بعض عند الشدائد، وذب بعضهم عن بعض ما فيه.
قال العباس بن عبد المطلب: (لزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة) وقيل: ابن نعامة، والصواب: الأول فروة بن نفاثة وكان مشركاً، واختلف أهل العلم في بيان ما إذا كان أسلم أم لا؟ ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قبِل منه الهدية وكان مشركاً، ثم وقع النزاع بعد ذلك هل أسلم أم لا؟ وهذه البغلة البيضاء التي تسمى (الشهباء)، وأحياناً تسمى (دلدل)، أما الحمار الذي كان يركبه عليه الصلاة والسلام فهو يعفور، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة سوى هذه البغلة.
قال: [(فلما التقى المسلمون والكفار -أي: في غزوة حنين- ولى المسلمون)] أي: ولوا الأدبار، وأنتم تعلمون أن تولية الدبر إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة من أكبر الكبائر.
قال: [(ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض على بغلته قِبل الكفار)] أي: ينهزها أن تسرع السير والعدو باتجاه الكفار، فإدبار أصحابه وتوليهم لم يكن فيه باعث له عليه الصلاة والسلام أن يهرب هو كذلك من الميدان، وإنما زاده ذلك إصراراً على ملاقاة العدو ومقابلة الكفار صلى الله عليه وسلم.
قال العباس: [(وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة ألا تسرع)] كأن النبي صلى الله عليه وسلم ينهزها، لتسرع ويخشى العباس من سرعة عدوها وجريانها أن تنكفئ برسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان يأخذ بلجامها ويكفكفها مخافة أن تقع بالنبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [(وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي عباس! ناد أصحاب السمرة -وسمرة: اسم الشجرة التي بايع تحتها أصحاب بيعة الرضوان- فقال العباس وكان رجلاً صيّتاً)] أي: له صوت جهوري عال ومرتفع، إذا نادى أسمع.
وقيل: إنه كان بينه وبين رعاة إبله وغنمه اثنا عشر ميلاً، وكان إذا صعد على تبة أو جبل صغير ونادى على الرعاة على مدار اثني عشر ميلاً سمعوا نداءه ولبوه.
قال: [(فقال عباس -وكان رجلاً صيتاً- فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها)] أي أنهم حينما سمعوا صوتي أنادي عليهم أتوا مسرعين كما تُسرع قطيع البقر إذا غابت عنها أولادها، كأنه يعبّر عن شدة جريان هؤلاء، وسرعة عودهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فكلهم هرع وبادر الرجوع والقدوم على النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لكأنهم قد اختلط بعضهم ببعض.
قال: [(فقالوا: يا لبيك! يا لبيك!)] لبيك أي: إجابة بعد إجابة، وسماع بعد سماع، واستجابة بعد استجابة.
قال: [(فاقتتلوا والكفار)] أي: فاقتتل النبي عليه الصلاة والسلام ومعه أصحاب السمرة -أصحاب بيعة الرضوان- مع الكافرين.
قال: [(والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار! يا معشر الأنصار)] كأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يركّز جداً على أن تكون المقاتلة معه من الأنصار.
قال: [(ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج! يا بني الحارث بن الخزرج!)] فكانت معظم النداءات للأنصار على جهة الخصوص.
قال: [(فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها، كأن عنقه اشرأبت مرتفعة إلى قتال هؤلاء الكافرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حين حمي الوطيس)].
فأول من قال: حين حمي الوطيس هو نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال: [(ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات، فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب محمد.
قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى.
قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلاً)] أي: قوت