[الفرق بين المشركين في عهد الرسالة ومشركي هذا الزمان]
اعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل هذا الزمان بأمرين، يعني: أن المشركين الأولين كانوا أحسن من الذين يشركون اليوم لأمرين: الأمر الأول: أن الأولين ما كانوا يشركون ويدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في فترة الرخاء.
بل إن فرعون الذي هو أكفر أهل الأرض عندما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:٩٠].
ولكن هذا لم ينفعه؛ لأنه وصل إلى الغرغرة، ولم يقلها إلا في هذا الوقت، وقد قال جبريل عليه السلام للنبي عليه الصلاة والسلام: (لو رأيتني لما غرق فرعون أجيء بالطين فأضعه في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله)، يعني: حتى جبريل كان لا يتمنى له أبداً أن يؤمن، وخاصة بعد أن ادعى الألوهية وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:٥١]، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤].
بل إن هلاكه أفضل.
قال: لكن إذا اشتدت عليهم الأمور، أي: إذا نزلوا البحر وجاءهم الموج لجئوا إلى الله عز وجل، والآن تجد السفينة في البحر وعليها الخمر والزناة والسكارى، وجميع أنواع الفساد، والسفينة تغرق والذي يزني يزني، والذي يشرب الخمر يشرب، والوضع كما هو عليه.
وإلى الله المشتكى.
قال: وأما في الشدة فيخلصون لله الدين.
هؤلاء هم المشركون الأولون، ففي الشدة يخلصون لله الدعاء، وأما في الرخاء فيشركون بالله، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:٦٧].
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:٤٠ - ٤١].
وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا} [الزمر:٨]، أي: راجعاً إليه أواباً مخبتاً، إلى قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:٨].
وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:٣٢].
فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه، وهي أن المشركين الذي قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون الله تعالى ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله تعالى وحده لا شريك له، وينسون ساداتهم تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا هذا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً جيداً راسخاً؟ هذه المسألة الأولى.
الأمر الثاني الذي يتميز به المشركون الأوائل عن مشركي أهل هذا الزمان: أن الأولين كانوا يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله -يعني: يدعون أناساً صالحين- إما أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة، أو غيرهم ممن أطاع الله عز وجل وظهرت طاعته لله عز وجل.
ومن يفعل هذا فإنه يكفر بذلك، ولكنه أحسن ممن يدفن حماراً في قبر ويطوف حوله، أو يعبد كافراً، أو يواليه.
وفي الأسبوع الماضي وأنا مسافر إلى المنصورة ركبت مع سائق فقال لي: أتعلم يا شيخ! ما الذي عملوا في رابين؟ فقلت له: وما الذي يحزنك؟! قال: موت هذا الرجل خسارة، قلت له: خسارة ماذا؟! فقال: إنه كان ينشر السلام، فقلت: سلام ماذا؟! قال لي: ألا تقرأ الجرائد؟ قلت له: أنا لا أقرأ جرائد، فقال لي: إنه كان محترماً، نشكو إلى الله الذين قتلوه، قلت له: أتحبه؟! قال: نعم، والله أحبه، فقلت له: ألا تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب قوماً فهو معهم)، أي: يحشر معهم، قال لي: يا ليت! فقلت له: الأخ نصراني أو مسلم أو كافر أو ماذا؟ واستمر الكلام بيننا حتى وصلنا المنصورة، وبمجرد أن وصلت قلت له: أوقف السيارة، قال: لماذا؟ قلت له: كي أستريح، فأوقف السيارة، فقلت له: كم تريد؟ قال: ستة جنيهات، قلت له: تفضل، وإن أردت أن أزيدك إلى العشرة سأفعل، ولكن انصرف عني فقد أزعجتني، وأنا أريد أن أذهب إلى محاضرة، ولا أريد أن أذهب وقد اغتظت منك، فذهب مسافة قصيرة ثم عاد فقال: لا يصح أن أتركك يا شيخ! المعذرة، فقلت له: إذا أردت أن تأخذني فلا تزعجني بالأغاني وبأمثالها من المعاصي، أو بمثل ذاك الحديث، فقال: هناك أغانٍ سيئة وأغانٍ ليست بسيئة.
فهؤلاء الناس أصبحت عندهم المعاصي لا شيء؛ لأنهم تعودوا عليها.
وأنت إذا رأيت امرأة متبرجة ولكن ليست مواكبة لموضة هذه الأيام فإنك تتضايق من هذه الفتنة، بينما كثير من الناس ينظرون إليها نظرة احتقار، وكأنها أتت من الريف، ولا تعرف الموضة وال