[باب في قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)]
قال: [باب في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:٣٣]] أي: ما كان الله ليعذب المشركين يا محمد وأنت فيهم، [{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:٣٣]].
والاستغفار: إما أن يكون هو مطلق الذكر، أو أن الاستغفار بمعنى الإيمان، أو بمعنى الصلاة.
قال: [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن عبد الحميد الزيادي أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال أبو جهل: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:٣٢]].
هذا الكلام في غاية القسوة، وقلة العقل، وسفاهة الأحلام؛ لأنه كان ينبغي أن يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، أو ارزقنا اتباعه أو غير ذلك، ولكنه قال: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:٣٢]، فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:٣٣]، يا محمد، {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال:٣٣ - ٣٤].
وهذا الباب في غاية الأهمية، والحافظ ابن كثير عليه رحمة الله قال في تفسير قول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا} [الأنفال:٣١] إذاً: فلم لم تقل؟ خاصة وأن القرآن قد تحداهم أن يأتوا بسورة أو بآية، فلم يأت أحدهم بشيء، قالوا: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:٣١].
والأساطير: جمع الأسطورة، والأسطورة: هي الأكذوبة، أي: فهذه أكذوبات تلقاها محمد من الأولين، أي: من الكتب والصحف السابقة.
{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:٣٢ - ٣٣].
قال الحافظ ابن كثير: يخبر الله تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم وعنادهم، ودعواهم الباطل عند سماع آياته سبحانه وتعالى حين تتلى عليهم أنهم يقولون: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال:٣١] وهذا منهم قول بلا فعل، يعني: دعوى وزعم أنهم يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولم يأتوا بمثل شيء منه.
والقائل لهذا: هو النضر بن الحارث -لعنه الله- كما قد نص على ذلك سعيد بن جبير، والسدي، وابن جريج وغيرهم، فإنه -لعنه الله- كان قد ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم، ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث، وهو يتلو على الناس القرآن، فكان إذا قام النبي صلى الله عليه وسلم من مقامه جلس هذا اللعين مكان النبي عليه الصلاة والسلام يقص على الناس، ويقول: بالله عليكم أينا أحسن قصصاً أنا أم محمد؟ لأنه تعلم من أخبار فارس، ولذلك قتله النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبراً.
وأما قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:٣٢]، فقال الحافظ ابن كثير: هذا من كثرة جهلهم وعتوهم وعنادهم، وشدة تكذيبهم وهذا مما عيبوا به اعتبارهم عرباً، وكان الأولى لهم أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأهدنا له، ووفقنا لاتباعه، ولكن استفتحوا على أنفسهم، واستعجلوا العذاب وتقديم العقوبة، كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى} [العنكبوت:٥٣] أي: لولا أجل محتوم معلوم مؤقت لجاءهم العذاب، {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:٥٣] أي: فجأة وهم لا يشعرون.
وقال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:١٦] أي: ربنا عجل لنا العذاب قبل يوم الحساب.
وقال الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج:١] أي: من المشركين {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:١] عن هذا العذاب الذي تزعم يا محمد أنه يمكن أن يقع عليهم، فلمَ لا يق