للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان كيفية يمين القسامة وردها على الطرف الآخر]

أما قوله عليه الصلاة والسلام: (أتحلفون خمسين يميناً فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم).

قد يقال: كيف عرضت اليمين على الثلاثة مع أن حويصة ومحيصة، لا يجب عليهما اليمين، بل لا يشرع لهما، وإنما يكون اليمين للوارث خاصة الذي هو عبد الرحمن لأنه أخو القتيل، وأما الآخران فابنا عم لا ميراث لهما مع الأخ؟

الجواب

أنه كان معلوماً عندهم، أن صورة الخطاب للعموم لكن المعلوم عند المخاطبين أن الذي سيحلف واحد منهم، وأما الآخران فابنا عم لا ميراث لهما مع الأخ، فاليمين تختص بالوارث، فأطلق الخطاب لهما، والمراد: من تختص به اليمين، أي: الذي تلزمه اليمين، واحتمل ذلك لكونه معلوماً للمخاطبين، كما سمع كلام الجميع في صورة قتله، وكيفية ما جرى له.

يثبت الحق قصاصاً كان أو دية بعد الحلف عليه، واختلف العلماء في ذلك: فمنهم من قال: قصاص.

ومنهم من قال: الدية.

ومنهم من قال: هدر لا قصاص ولا دية.

واعلم أنهم إنما يجوز لهم أن يحلفوا خمسين يميناً إذا علموا يقيناً أن فلاناً قتل ولا إشكال هنا، ويجوز لهم أن يحلفوا خمسين يميناً مع غلبة الظن مع القرائن الدالة كاللوث.

ولا يجوز لأحد أن يقسم هذه الأيمان في القسامة بمجرد الظن، أو الظن المجرد، بل لا بد من ظن مقترن بقرائن، أما مجرد الظن أو مطلق الظن فلا يستوجب اليمين، ولا يجوزها من باب أولى، وإنما عرض عليهم النبي صلى الله عليه وسلم اليمين إن وجد فيهم هذا الشرط، وليس المراد بالإذن لهم بالحلف من غير ظن، ولهذا قالوا: (كيف نحلف ولم نشهد).

أما قوله لما قالوا: (كيف نحلف ولم نشهد يا رسول الله، قال: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً) أي: ترد اليمين إلى الطرف الآخر وإن كانوا يهوداً فيحلفون خمسين يميناً، فإن فعلوا ذلك برئت ساحتهم بمجرد هذه الأيمان.

وقيل معناه: يخلصنكم من اليمين بأن يحلفوا فإذا حلفوا انتهت الخصومة، ولم يثبت عليهم شيء، وخلصتم أنتم من اليمين.

وفي هذا الحديث دليل لصحة يمين الكافر والفاسق، وهذا بخلاف الشهادة، فإنه يشترط فيها العدالة إلا في مواطن، أما القسامة فيصح فيها يمين الكافر ويمين الفاسق من باب أولى، وإنما وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعاً للنزاع، وإصلاحاً لذات البين، فإن أهل القتيل لا يستحقون إلا أن يحلفوا، أو يستحلفوا المدعى عليهم وقد امتنعوا من الأمرين.

يعني: أهل القتيل قالوا: لا نحلف، ولا نقبل اليهود أن يحلفوا؛ فأراد صلى الله عليه وسلم جبرهم وقطع المنازعة وإصلاح ذات البين بدفع الدية من عنده.

أما قوله: (فوداه من إبل الصدقة) جمهور المحدثين على أنه وهم من الراوي؛ لأن مجموع الروايات تقول: إنما وداه من عنده، ومن عند نفسه.

أي: من ماله الخاص عليه الصلاة والسلام، وربما جمعنا بين اللفظين أن هذا كان من مال الصدقة عامة، فلما وزع مال الصدقة اشتراه النبي عليه الصلاة والسلام من مالكه بعد توزيعه عليه، لأن بعض الناس يتصور أن هذا إنما تم توزيعه من زكاة المال ولا يصح ذلك؛ لأن الديات ليست من مصارف الزكاة.