[باب نسخ قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) بقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
هذا هو الباب الخامس والعشرون من كتاب الصيام، ولم تكن الدراسة بالترتيب؛ لأننا آثرنا أن نتناول الأبواب التي تخص صيام الفريضة، أما صيام النوافل فسنعود إليه إن شاء الله تعالى بعد رمضان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب بيان نسخ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:١٨٤] بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:١٨٥].
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بكر - يعني ابن مضر - عن عمرو بن الحارث عن بكير - ابن عبد الله الأشج - عن يزيد مولى سلمة عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:١٨٤] كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها)] والتي بعدها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:١٨٥]، في أول الأمر كان من يجد شيئاً ولو يسيراً من المشقة في الصيام فله أن يفطر ويفتدي عن هذا اليوم بإطعام مسكين، فعلى هذا يترجح لدينا أن قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:١٨٤] يعني: يقدرون على صيامه، ولكنهم يجدون في الصوم مشقة عظيمة أن يفطروا ويفدوا، وهذا التأويل هو تأويل سلمة بن الأكوع وغيره من الصحابة، والمذهب عند أهل العلم أن من روى حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام وفسره فتفسيره أولى من تفسير غيره، لأن الراوي أدرى وأعلم بمراد النبي عليه الصلاة والسلام من هذا الحديث، أما معنى الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:١٨٤] أي: يطيقون صيام شهر رمضان.
{فِدْيَةٌ} [البقرة:١٨٤] فغير مستقيم؛ لأن الذي يفطر هو الذي يفدي لا الذي صام وأطاق الصيام، فإما أن تكون الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:١٨٤] أي: يعجزون تماماً عن صيامه، وإما على الذين يطيقونه بمشقة عظيمة جداً، فالله عز وجل شرع لهم الفطر في مقابل الفدية، هذا في أول الأمر، ولكن حكم هذه المسألة نسخ بقول الله عز وجل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:١٨٥].
وستأتي الروايات معنا في البيان أن الصيام في أول الأمر كان لمن أراد، لكن الذي لا يصوم عليه أن يفدي.
قال: [حدثني عمرو بن سواد العامري أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله الأشج عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع عن مولاه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال: (كنا في رمضان)] وقوله: (كنا في رمضان) ليبين أن هذه الآية إنما هي متعلقة بصيام الفرض لا بصيام التطوع.
قال: [(كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام، ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين)] يعني: حدث هذا في العهد النبوي، فلو حدث بعد العهد النبوي لقلنا بأن الأمر فيه نزاع أو فيه خلاف، فإذا نسب الأمر الشرعي لزمن النبوة ارتفع الخلاف؛ لأن الحاكم والآمر والناهي فيه هو النبي عليه الصلاة والسلام، إذاً فلا نزاع معه، فحكمه هو الحكم، وقضاؤه هو القضاء المبرم صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (على عهد النبي عليه الصلاة والسلام) يعني: في عهد النبوة.
وقوله: (من شاء صام) أي: في رمضان وفي حضرة النبي عليه الصلاة والسلام.
وقوله: (ومن شاء أفطر فافتدى بإطعام مسكين) يعني: كان الصيام في أول الأمر لمن يريد، والذي لا يريد أن يصوم عليه الفدية، والفدية إطعام مسكين واحد في كل يوم.
ثم قال: [(حتى أنزلت هذه الآية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:١٨٥])] يعني: كانت المسألة اختيارية إلى أن نزل قول الله عز وجل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:١٨٥] أي: فمن حضر منكم شهر رمضان ومن أدركه وهو حي مكلف عاقل فليصمه، وهذا أمر، والأمر في الكتاب والسنة يدل على الوجوب.
إذاً: صيام شهر رمضان حين نزول قول الله عز وجل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [الب