التي في معنى الهجرة التي كانت مفروضة لمفارقة الفريق الباطل فلا يكثر سوادهم ولإعلاء كلمة الله وإظهار دينه. قال أبو عبد الله الأبي: اختلف في أصول الفقه في، مثل هذا التركيب يعني قوله: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية هل هو لنفي الحقيقة أو لنفي صفة من صفاتها كالوجوب وغيره. فإن كان لنفي الوجوب فهو يدل على وجوب الجهاد على الأعيان لأن المستدرك هو النفي والنفي وجوب الهجرة على الأعيان فيكون المستدرك وجوب الجهاد على الأعيان، وعلى أن النفي في هذا التركيب الحقيقة، فالمعنى أن الهجرة بعد الفتح ليست بهجرة وإنما المطلوب الجهاد الطلب الأعم من كونه على الأعيان أو على الكفاية قال: والمذهب أن الجهاد
اليوم فرض كفاية إلا أن يعين الإمام طائفة فيكون عليها فرض عين اهـ.
وقوله: جهاد رفع مبتدأ خبره محذوف مقدمًا تقديره كما سبق لكم جهاد. وقال الطيبي في شرح مشكاته قوله: ولكن جهاد ونية عطف على محل مدخول لا، والمعنى أن الهجرة من الأوطان إما هجرة إلى المدينة للفرار من الكفار ونصرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإما إلى الجهاد في سبيل الله وإما إلى غير ذلك من تحصيل الفضائل كطلب العلم فانقطعت الأولى وبقيت الأخريان فاغتنموهما ولا تقاعدوا عنهما.
(وإذا استنفرتم فانفروا) بضم التاء وكسر الفاء فانفروا بهمزة وصل مع كسر الفاء أي إذا دعاكم الإمام إلى الخروج إلى الغزو فأخرجوا إليه وإذا علمتم ما ذكر (فإن هذا بلد حرم الله) عز وجل بحذف الهاء، وللكشميهني: حرمه الله (يوم خلق السماوات والأرض) فتحريمه أمر قديم وشريعة سالفة
مستمرة وحكمه تعالى قديم لا يتقيد بزمان فهو تمثيل في تحريمه بأقرب متصور لعموم البشر، إذ ليس كلهم يفهم معنى تحريمه في الأزل وليس تحريمه مما أحدث الناس، والخليل عليه الصلاة والسلام إنما أظهره مبلغًا عن الله لما رفع البيت إلى السماء زمن الطوفان، وقيل: إنه كتب في اللوح المحفوظ يوم خلق السماوات والأرض إن الخليل عليه الصلاة والسلام سيحرم مكة بأمر الله (وهو حرام) بواو العطف (بحرمة الله) أي بسبب حرمة الله أو متعلق الباء محذوف أي متلبسًا ونحو ذلك وهو تأكيد للتحريم (إلى يوم القيامة وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي) بلم الجازمة والهاء ضمير الشأن، وفي رواية غير الكشميهني كما هو مفهوم عبارة الفتح: وأنه لا يحل والأول أنسب لقوله قبلي (ولم يحل لي) القتال فيه (إلا ساعة من نهار) خصوصية ولا دلالة فيه على أنه عليه الصلاة والسلام قاتل فيه وأخذه عنوة فإن حل الشيء لا يستلزم وقوعه نعم ظاهره تحريم القتال بمكة.
قال المارودي فيما نقله عنه النووي في شرح مسلم: من خصائص الحرم أن لا يحارب أهله فإن بغوا على أهل العدل فقد قال بعض الفقهاء يحرم قتالهم بل يضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ويدخلوا في أحكام أهل العدل، وقال الجمهور: يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا يجوز إضاعتها فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها. قال النووي: وهذا الأخير هو الصواب، ونص عليه الشافعي في الأم. وقال القفال في شرح التلخيص: لا يجوز القتال بمكة حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم، وغلطه النووي.
وأما القتل وإقامة الحدود فعن الشافعي ومالك حكم الحرم كغيره فيقام فيه الحد ويستوفى فيه القصاص سواء كانت الجناية في الحرم أو في الحل ثم لجأ إلى الحرم لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن، وقال أبو حنيفة: إن كانت الجناية في الحرم استوفيت العقوبة فيه وإن كانت في الحل ثم لجأ إلى الحرم لم تستوف منه فيه ويلجأ إلى الخروج منه فإذا خرج اقتص منه، واحتج بعضهم لإقامة حد القتل فيه بقتل ابن جطل ولا حجة فيه لأن ذلك كان في الوقت الذي أحل للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(فهو) أي البلد (حرام بحرم الله إلى يوم القيام) أي بتحريمه والفاء في فهو جزاء لشرط محذوف تقديره إذا كان الله كتب في اللوح المحفوظ تحريمه ثم أمر خليله بتبليغه وإنهائه