المدينة (-رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(تفتح اليمن) بضم الفوقية وسكون الفاء وفتح الفوقية مبنيًا للمفعول واليمن رفع نائب فاعل وسمي اليمن لأنه عن يمين القبلة أو عن يمين الشمس أو بيمن بن قحطان (فيأتي قوم) من الذين حضروا فتحها وأعجبهم حسنها ورخاؤها (يبسون) بفتح المثناة التحتية وكسر الموحدة وتشديد المهملة ثلاثيًا. وعن ابن القاسم بضم الموحدة فهو من باب ضرب يضرب، ومن باب نصر ينصر وبضم التحتية مع كسر الموحدة أيضًا من الثلاثي المزيد أي يسوقون دوابهم إلى المدينة سوقًا لينًا (فيتحملون)، منها أي المدينة (بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى اليمن (والمدينة خير لهم) منها لأنها حرم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجواره مهبط الوحي ومنول البركات (لو كانوا يعلمون) بما فيها من الفضانل كالصلاة في مسجدها وثواب الإقامة فيها وغير ذلك من الفوائد الدنيوية والأخروية التي يستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها ما ارتحلوا منها.
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وظاهره أن الذين يتحملون غير الذين يبسون فكأن الذي حضر الفتح أعجبه حُسن اليمن ورخاؤه فدعا قريبه إلى المجيء إليه، فيحتمل المدعوّ بأهله وأتباعه، لكن صوّب النووي أن في حديث الباب الإخبار عمن خرج من المدينة متحملاً بأهله بأسًا في سيره مسرعًا إلى الرخاء والأمصار المفتتحة.
وفي رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة في هذا الحديث ما يؤيده ولفظه: تفتح الشام فيخرج الناس إليها يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.
ويوضح ذلك حديث جابر عند البزار مرفوعًا: ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون رخاء ثم يتحملون بأهليهم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.
وقال المنذري: رجاله رجال الصحيح، والأرياف جمع ريف بكسر الراء وهو ما قارب المياه في أرض العرب، وقيل: هو الأرض التي فيها الزرع والخصب، وقيل غير ذلك.
(وتفتح الشام) بضم أوّله مبنيًّا لما لم يسم فاعله وسمي بالشام لأنه عن شمال الكعبة (فيأتي قوم يبسون) بفتح أوله وضمه وكسر الموحدة وضمها (فيتحملون) من المدينة (بأهليهم ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى الشام (والمدينة خير لهم) منها لما ذكر (لو كانوا يعلمون) بفضلها فالجواب محذوف كما في السابق واللاحق دلّ عليه ما قبله، وإن كانت "لو" بمعنى "ليت" فلا جواب لها وعلى كلا التقديرين ففيه تجهيل لمن فارقها لتفويته على نفسه خيرًا عظيمًا، (وتفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم) من المدينة (ومن أطاعهم) من الناس راحلين إلى العراق (والمدينة خير لهم) من العراق (لو كانوا يعلمون). والواو في قوله والمدينة في الثلاثة للحال وهذا من أعلام نبوّته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث أخبر عليه الصلاة والسلام بفتح هذه الأقاليم، وأن الناس يتحملون بأهاليهم ويفارقون المدينة فكان ما قاله عليه الصلاة والسلام على الترتيب المذكور في الحديث، لكن في حديث عند مسلم وغيره تفتح الشام ثم اليمن ثم العراق، والظاهر أن اليمن فتح قبل فتح الشام للاتفاق على أنه لم يفتح شيء من الشام في حياته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فتكون رواية تقديم الشام على اليمن معناها استيفاء فتح اليمن إنما كان بعد الشام وأما قول المظهري إنه عليه الصلاة والسلام أخبر في أوّل الهجرة إلى المدينة بأنه سيفتح اليمن فيأتي قوم من اليمن إلى المدينة حتى يكثر أهل المدينة خير لهم من غيرها، فتعقبه الطيبي بأن تنكير قوم ووصفه بيبسون ثم توكيده بقوله: لو كانوا يعلمون لا يساعد ما قاله لأن تنكير قوم لتحقيرهم وتوهين أمرهم ثم الوصف بيبسون وهو سوق الدواب يشعر بركاكة عقولهم وأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية وحطام الدنيا الفانية العاجلة وأعرضوا عن الإقامة في جوار