النَّاسَ بِالْبِرِّ﴾ [البقرة: ٤٤] أنها ناعية على من يعظ غيره ولا يعظ نفسه سوء صنيعه وخبث نفسه وأن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل، فإن الجامع بينهما تأبى عنه شكيمته، والمراد بها حث الواعظ على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل ليقوم فيقيم لا منع الفاسق من الوعظ، فإن الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر انتهى.
وهذا التعليق المذكور وصله المصنف في تاريخه عن أبي نعيم وأحمد بن حنبل في الزهد، عن ابن مهدي كلاهما، عن سفيان الثوري، عن أبي حيان التيمي، عن إبراهيم المذكور.
(وقال ابن أبي مليكة) بضم الميم عبد الله بفتح العين ابن عبيد الله بضمها القرشي التيمي المكي الأحول المؤذن القاضي لابن الزبير المتوفى سنة سبع عشرة ومائة (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي) وفي نسخة رسول الله (ﷺ) أجلهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة، وعقبة بن الحرث والمسور بن مخرمة (كلهم يخاف) أي يخشى (النفاق) في الأعمال (على نفسه) لأنه قد عرض للمؤمن في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص ولا يلزم من خوفهم ذلك وقوعه منهم، وإنما ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى رضي الله عنّا بهم، أو قالوا ذلك لكون أعمارهم طالت حتى رأوا من التغيير ما لم يعهدوه مع عجزهم عن إنكاره فخافوا أن يكونوا داهنوا بالسكوت (ما
منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل) عليهما الصلاة والسلام أي: لا يجزم أحد منهم بعدم عروض ما يخالف الإخلاص، كما يجزم بذلك في إيمان جبريل وميكائيل لأنهما معصومان لا يطرأ عليهما ما يطرأ على غيرهما من البشر، وقد روى معنى هذا الأثر الطبراني في الأوسط مرفوعًا من حديث عائشة بإسناد ضعيف، وفي هذا الأثر إشارة إلى أنهم كانوا يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه، (ويذكر) بضم أوله وفتح ثالثه (عن الحسن) البصري ﵀ مما وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافق له من طرق (ما خافه) أي النفاق وفي نسخة عن الحسن أنه قال: ما خافه، وفي رواية وما خافه (إلا مؤمن ولا أمنه) بفتح الهمزة وكسر الميم (إلا منافق) جعل النووي الضمير في خافه وأمنه لله تعالى، وتبعه جماعة على ذلك، لكن سياق الحسن البصري المروي عند الفريابي حيث قال: حدّثنا قتيبة، حدّثنا جعفر بن سليمان عن المعلى بن زياد سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلاّ هو ما مضى مؤمن قطّ وما بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قطّ ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن، وهو عند أحمد بلفظ: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق ولا أمنه إلا منافق يعين إرادة المؤلف الأوّل وأتى بيذكر الدالة على التمريض مع صحة هذا الأثر لأن عادته الإتيان بنحو ذلك فيما يختصر من المتون أو يسوقه بالمعنى لا أنه ضعيف.
ثم عطف المؤلف على خوف المؤمن قوله:(وما يحذر) بضم أوّله وفتح ثالثه المعجم مع التخفيف. وقال الحافظ ابن حجر: بتشديده أي وباب ما يحذر (من الإصرار على التقاتل والعصيان من غير توبة)، وفي رواية أبوي ذر والوقت على النفاق بدل التقاتل، والأولى هي المناسبة لحديث الباب حيث قال فيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى - وقتاله كفر وهي رواية أبي ذر والأصيلي وابن عساكر، ومعنى الثانية كما في الفتح صحيح وإن لم تثبت به الرواية انتهى.
نعم ثبتت به الرواية عن أبي ذر ونسخة السيمساطي كما رقم له بفرع اليونينية كما ترى، وما مصدرية وما بين الترجمتين من الآثار اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وفصل بها بينهما لتعلقها بالأولى فقط. وأما الحديثان الآتيان إن شاء الله تعالى- فالأوّل منهما للثانية والثاني للأولى فهو لفّ ونشر غير مرتب، ومراد المؤلف الرد على المرجئة أيضًا حيث قالوا: لا حذر من المعاصي مع حصول الإيمان، ومفهوم الآية التي ذكرها المؤلف يردّ عليهم حيث قال:(لقول الله تعالى) ولأبي ذر ﷿ بدل قوله تعالى، وفي رواية الأصيلي لقوله ﷿(ولم يصروا على ما فعلوا) ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين لقوله ﷺ فيما رواه الترمذي