فمراده به الانتصار لما روي عن الإمام الأعظم مالك أنه يقع الطلاق والعتاق بالنيّة وإن لم يتلفظ.
قال في المصابيح: وقد أشكل هذا على كثير من أصحابه لأن النية عبارة عن القصد في الحال أو العزم في الاستقبال فكما لا يكون قاصد الصلاة مصليًّا حتى يفعل المقصود وكذا قاصد الزكاة والنكاح وغيرهما كذلك ينبغي أن يكون قاصد الطلاق، ثم قول القائل: يقع الطلاق بالقصد متدافع، وحاصله يقع ما لم يوقعه المكلف إذ القصد ضرورة يفتقر إلى مقصود النية فكيف يكون القصد نفس المقصود هذا قلب للحقائق، فمن هنا اشتد الإنكار حتى حمل على التأويل، والذي يرفع الإشكال أن النية التي أُريدت هنا هي الكلام النفسي الذي يعبر عنه بقول القائل أنت طالق فالمعنى الذي هذا لفظه هو المراد بالنيّة وإيقاع الطلاق على من تكلم بالطلاق وأنشأه حقيقة لا ريب فيه، وذلك أن الكلام يطلق على النفسي حقيقة وعلى اللفظي قيل حقيقة وقيل مجازًا ولهذا نقول قاصد الإيمان مؤمن لأن التكلم بالإيمان كلامًا نفسيًّا مصدقًا عن معتقده مؤمن وكذلك معتقد الكفر بقلبه المصدق له كافر وأما المتكلم في نفسه بإحرام الصلاة وبالقراءة فإنما لم يعد مصليًا ولا قارئًا بمجرد الكلام النفسي لتعبّد الشرع في هذه المواضع الخاصة بالنطق اللفظي. ألا ترى أن المتكلم بإحرام الحج في نفسه محرم وإن لم يلب وكذلك المخيرة إذا تسترت ونقلت قماشها ونحو ذلك كان ذلك اختيارًا وإن لم تتكلم بلفظ لأنها قد تكلمت في نفسها ونصبت هذه الأفعال دلالات على الكلام النفسي، فإن الدليل عليه لا يخص النطق بل تدخل فيه الإشارات والرموز والخطوط، ولها كانت المعاطاة عنده بيعًا لدلالتها على الكلام النفسي عرفًا فاندفع السؤال وصار ما كان مشكلاً هو اللائح انتهى.
وهذا نقضه الخطابي بالظهار فإنهم أجمعوا على أنه لو عزم على الظهار لم يلزم حتى يتلفظ به قال: وهو في معنى الطلاق وكذلك لو حدّث نفسه بالقذف لم يكن قاذفًا ولو حدّث نفسه في
الصلاة لم يكن عليه إعادة، وقد حرّم الله تعالى الكلام في الصلاة فلو كان حديث النفس في معنى الكلام لبطلت الصلاة، وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الطلاق والنذور، ومسلم في الإيمان، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في الطلاق.
وبه قال:(حدّثنا محمد بن كثير) أبو عبد الله العبدي البصري الثقة ولم يصب من ضعفه وقد وثّقه أحمد (عن سفيان) الثوري قال: (حدّثنا يحيى بن سعيد) الأنصاري التابعي (عن محمد بن إبراهيم التيمي) القرشي المدني التابعي (عن علقمة بن وقاص الليثي) بالمثلثة أنه (قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(الأعمال) إنما تصح (بالنية) بالإفراد (ولامرئ) ثواب (ما نوى) بحذف إنما في الموضعين ومعنى النية القصد إلى الفعل، وقال الحافظ المقدسي في أربعينه: النية والقصد والإرادة والعزم بمعنى، والعرب تقول نواك الله بحفظه أي قصدك وعبارة بعضهم إنها تصميم القلب على فعل الشيء، وقال الماوردي في كتاب الإيمان: قصد الشيء مقترنًا بفعله فإن تراخى عنه كان عزمًا، وقال الخطابي: قصدك الشيء بقلبك وتحري الطلب منك له، وقال البيضاوي: النيّة عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرض من جلب نفع أو دفع ضرِّ حالاً أو مآلاً والشرع خصّها بالإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء لوجه الله وامتثالاً لحكمه والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليحسن تطبيقه وتقسيمه بقوله:
(فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا) وللكشميهني: لدنيا (يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) فإنه تفصيل لما أجمله واستنباط للمقصود عما أصله، والمعنى من قصد بهجرته وجه الله وقع أجره على الله، ومن قصد بها دنيا أو امرأة فهي حظه ولا نصيب له في الآخرة، فالأولى للتعظيم، والثانية للتحقير. ولا يقال اتحد